أثر العبادة في بناء الشباب

0 1396

للعبادة أثر كبير في بناء الشباب جسمانيا ونفسيا وأخلاقيا واجتماعيا , فهي تدريب عملي على الإخلاص والإتقان والإجادة والتميز , فالعبادة شعور دائم بوجود الله وإيقاظ مستمر للضمير والوجدان ,وللعبادة آثار وقائية، وأخرى علاجية؛ تتمثل في إنقاذ المتعبد من التعقيد واليأس والشعور بالذنب وتفاهة الذات، لأن وقوف الإنسان بين يدي الله تعالى، واسـتمرار العلاقة به؛ يشـعره بقربه من مالك الوجود، وحبه له، وعطفه عليه، كما يشعره بقيمته الإنسانية، وعلو قدره.
فالصلاة التي هي أهم الأركان في الإسلام بعد توحيد الله تعالى نجد أنها من أعظم وسائل تزكية النفوس، قال تعالى : { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون(45)} (العنكبوت) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حدا فأقمه على ، قال : ولم يسأله عنه ، قال : وحضرت الصلاة ، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ، قام إليه الرجل ، فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حدا ، فأقم في كتاب الله ، قال : "أليس قد صليت معنا ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله قد غفر لك ذنبك ، أو قال : حدك".(أخرجه البخاري ومسلم).
فكأن حقيقة الصلاة أنها تزكية للنفس وتطهير لها من الأخلاق الرديئة والصفات السيئة, لذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتخذ من العبادات فرصة للتدريب على السلوكيات الطيبة , فلقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن تكون صفوف الصلاة منتظمة وأن يقف المسلمون في الصلاة متكاتفين متساوين وأن يلين كل واحد لأخيه ولا يتركوا بينهم فرجة للشيطان , عن عبد الله بن عمر , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أقيموا الصفوف فإنما تصفون بصفوف الملائكة وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا في أيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله تبارك وتعالى ومن قطع صفا قطعه الله". (أخرجه أحمد وغيره).
وطبيعي أن ذلك التدريب على النظام والتلاحم والتواصل لا يكون داخل الصلاة أو داخل المسجد وفقط بل لا بد أن يمتد أثره خارج الصلاة وفي العلاقات والمعاملات .

عن عبد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن قول الله عز وجل (الذين هم في صلاتهم خاشعون) قال الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء المسلم وأن لا تلتفت في صلاتك.
وهنالك آثار نفسية عظيمة للصلاة، فعندما يتم المؤمن خشوع الصلاة فإن ذلك يساعده على التأمل والتركيز والذي هو أهم طريقة لمعالجة التوتر والإرهاق العصبي. كذلك الصلاة علاج ناجع للغضب والتسرع والتهور فهي تعلم الإنسان كيف يكون هادئا وخاشعا وخاضعا لله عز وجل وتعلمه الصبر والتواضع. هذه الأشياء تؤثر بشكل جيد على الجملة العصبية وعلى عمل القلب وتنظيم ضرباته وتدفق الدم خلاله.(عبد الدائم الكحيل : روائع الإعجاز النفسي في القرآن والسنة 47).
لذا فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم الآباء على تعويد وتدريب أبناءهم الصغار على الصلاة , والحزم معهم إذا كبروا في هذا الأمر , عن شعيب ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع" (أخرجه أحمد وأبو داود).
كان الحسن البصري يقول : يقول يا ابن آدم أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك و أنت أول ما تسأل عنها يوم القيامة.
و قال حاتم الأصم : فاتتني مرة صلاة الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده و لو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف إنسان لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا ! .
لا يصنع الأبطال إلا     ***       في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في ***       ظل الأحاديث الصحاح
شعب بغير عقيدة     ***            ورق يذريه الرياح
من خان حي على الصلاة * * * يخون حي على الكفاح
والصيام غايته العظمى تحقيق التقوى كما قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ((183) سورة البقرة).
ولا تتم التقوى عند العبد إلا إذا حسن خلقه مع خلق الله تعالى ، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الوصية بالتقوى والوصية بحسن الخلق , فعن أبي ذر ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن". (أخرجه أحمد وغيره) .
وعن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الصيام جنة ، فإذا كان أحدكم صائما ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل : إني صائم ، إني صائم". (البخاري ومسلم) .
فللصيام قدرة فائقة على علاج الاضطرابات النفسية القوية مثل الفصام!! حيث يقدم الصوم للدماغ وخلايا المخ استراحة جيدة، وبنفس الوقت يقوم بتطهير خلايا الجسم من السموم، وهذا ينعكس إيجابيا على استقرار الوضع النفسي لدى الصائم.
حتى إننا نجد أن كثيرا من علماء النفس يعالجون مرضاهم النفسيين بالصيام فقط وقد حصلوا على نتائج مبهرة وناجحة! ولذلك يعتبر الصوم هو الدواء الناجع لكثير من الأمراض النفسية المزمنة مثل مرض الفصام والاكتئاب والقلق والإحباط. (عبد الدائم الكحيل : روائع الإعجاز النفسي في القرآن والسنة 56).

والزكاة كذلك هي عبادة وفريضة وهي أيضا وسيلة من أعظم وسائل تطهير النفس من البخل والشح والأنانية، وزرع معاني الفضيلة والألفة والرحمة والشفقة، ولهذا قال الله عز وجل:{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} ((103)التوبة).
لذا فإن الصدقة لا تقبل إذا صحبها وتبعها من وأذى ومعايرة , قال تعالى : {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (262) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (263) يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (264)} (سورة البقرة).
أما الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام فإننا نرى له أثرا عجيبا في إصلاح الأخلاق وتهذيب السلوك كيف لا والله عز وجل يقول: { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (197)} (سورة البقرة).
عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حج هذا البيت ، فلم يرفث ولم يفسق حتى يرجع ، رجع كيوم ولدته أمه". (أحمد والبخاري).
ولو أن المسلمين استلهموا هذه الروح واستشعروا هذه الغاية من عباداتهم في كل أحوالهم لتحسنت الأخلاق كثيرا ولنعم المجتمع المسلم بعلاقات ملؤها الحب والمودة والرحمة ولابتعدوا عن سفاسف الأخلاق ومذمومها .
إذ أن العبادة تعمل دائما على تطهير الذات الإنسانية من كل تلك المعوقات، وتساهم بإنقاذها من مختلف الأمراض النفسية والأخلاقية، وتسعى لأن يكون المحتوى الداخلي مطابقا للمظهر والسلوك الخارجي، لإزالة التناقض والتوتر الداخلي، ولتحقيق انسجام كامل بين الشخصية، وبين القيم والمبادئ الحياتية السامية.
كما تعمل على غرس حب الكمال والتسامي الذي يدفع الإنسان إلى التعالي، وتوجيه نظره إلى المثل الأعلى المتحقق في الكمالات الإلهية، والقيم الروحية السامية .
فالإنسان عندما يتعبد إنما يعبر عن حقيقة الموقف الإنساني أمام بارئه، وعلاقة الإنسانية به، ليعيش الإنسانية كلها متمثلة في إنسانيته المتوجهة إلى بارئها.
ولقد ربط الله تعالى في كتابه الكريم ربطا وثيقا متلازما بين الإيمان قولا والإيمان تطبيقا وعملا , قال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277)} (سورة البقرة).
فالعبادة لا تكون وسيلة للتربية إلا إذا ارتبطت بالسلوك والخلق , قال تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)} (سورة البقرة).
وقال تعالى : {والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)} (سورة العصر).
عن أبي هريرة ، قال: قال رجل : يا رسول الله ، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها ، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها ، قال : "هي في النار" ، قال : يا رسول الله ، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها ، وأنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها ؟ قال : "هي في الجنة". (أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد).
ولقد عرف الرسول الإفلاس الحقيقي بأنه ليس إفلاس المال والمادة بل هو إفلاس الخلق والتصرف , عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "هل تدرون من المفلس؟" قالوا : المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع ، قال : "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ، ويأتي قد شتم عرض هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، فيقعد فيقتص هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار". (أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما).
وقال الإمام علي رضي الله عنه : ليست الصلاة قيامك وقعودك ، إنما الصلاة إخلاصك ، وأن تريد بها الله وحده.
لذا فقد طبق السلف الصالح هذه المفاهيم في تربيتهم لأولادهم , فقد ربوهم على تطبيق العبادات وتحويلها إلى سلوك وتقوى وإخلاص وإتقان , فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك الخليفة الذي كان قبله، وانتهى من الخطبة التي افتتح بها حكمه بعد أن بايعه الناس، ينزل عن المنبر ويتجه إلى بيته، ويأوي إلى حجرته يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد هذا الجهد، وذلك العناء اللذين كان فيهما منذ وفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك. وما يكاد يسلم جنبه إلى مضجعه حتى يقبل عليه ولده عبد الملك - وكان يومئذ يتجه نحو السابعة عشرة من عمره - ويقول له: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بني، أريد أن أغفو قليلا، فلم تبق في جسدي طاقة، فقال: أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في عمك سليمان، وإني إذا حان الظهر صليت في الناس، ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فقال: ومن لك يا أمير المؤمنين بأن تعيش إلى الظهر؟ فألهبت هذه الكلمة عزيمة عمر، وأطارت النوم من عينيه وبعثت القوة والعزم في جسده المتعب، وقال: ادن مني أي بني، فدنا منه، فضمه إليه، وقبل ما بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي، من يعينني على ديني، ثم قام، وأمر أن ينادي في الناس: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
يقول الشاعر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت * * *ولا يلين إذا قومته الخشب
وكما قال صالح بن عبد القدوس:
وإن من أدبته في الصبا * * * كالعود يسقى الماء في غرسه
حتى تراه ناظرا مورقا * * *    بعد الذي قد كان من يبسه
فعلينا أن نربي الشباب على حسن إتقان العبادة لأنها الطريق الموصلة إلى حسن إتقان العمل وإلى طيب التخلق بالخلق الفاضل الكريم.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة