كلمة التوحيد..نفي وإثبات

0 1835

 مظاهر الخشوع بادية على قسمات وجهه، ودلائل الزهد تلمحها من لباسه وخشونة عيشه وطبيعة مأكله ومشربه، ولربما جاز على بعضهم أن يطلق عليه اسم "الناسك"، وهو على زهده ورهبانيته وإيمانه بخالقه، إلا أنه قد لا يزن عند الله جناح بعوضة، وما طعامه وشرابه وتضييقه على نفسه إلا هباء منثور يوم القيامة لا يغني من الله شيئا، كما قال أحكم الحاكمين: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (الفرقان:23).

صورة يجفل الإنسان من تخيلها إذا وضع نفسه مكان ذلك الخاسر الذي أفنى عمره وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وتجعل صاحبها في رهبة وخوف من الوقوع في الأسباب المؤدية إلى مثل هذه النهاية، وتدعوه إلى التساؤل عن سببها ومكمن الخلل فيها، والسر كامن في جملة واحدة، لو وعاها ذلك الناسك العابد لكانت النهاية مختلفة حتما، وهذه الجملة هي: "كلمة التوحيد...نفي وإثبات".

نعم، لقد خلق الله الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، وأجزل له جزيل العطاء، ومن عصاه وتعدى حدوده، وجانب صراطه المستقيم، واتبع سبيل غير المؤمنين، عذبه أشد العذاب، وفاته النعيم المقيم، وأصل هذا الطريق وأساسه هو عبادة الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56).

هذه العبادة التي جاء الأمر بها، مطلوبة من المكلف على وجه الحصر لله تبارك وتعالى، فلا يجوز أن يشاركه فيها غيره، ولذا: فإن كلمة التوحيد التي معناها: لا معبود بحق إلا الله، تفرض على العباد إثبات استحقاق الخالق جل وعلا للعبادة، وفي الوقت ذاته: تنفي استحقاق أي مخلوق سوى الله لأي نوع من التذلل والخضوع والتعبد، وبدون هذه الموازنة بين هذا النفي وذاك الإثبات، لا يكون المؤمن مؤمنا، ولن يستطيع الارتقاء في سماوات التوحيد دون الاستعانة بهذين الجناحين: الإيمان بالله، والكفر بما سواه.

يقول الشوكاني: " تحقيق معنى (لا إله إلا الله) ، وهي متركبة من نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات -غير الله- كائنة ما كانت، في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام".

وعليه: من اكتفى بإثبات استحقاق الله للعبادة، دون أن يعتقد اعتقادا جازما ببطلان تأليه ما سواه من المعبودات واعتبارها باطلة، فهو لم يحقق بعد كلمة التوحيد التي تحصل بها النجاة يوم القيامة.
وكل من له إلمام باللغة العربية يعرف أن الأسلوب الموجود في كلمة التوحيد: (لا إله...إلا الله) هو أسلوب حصر يحقق الإثبات والنفي ويتطلبهما جميعا، ومثلها كذلك استخدام كلمة (إنما) في مثل قوله تعالى: {إنما الله إله واحد} (النساء:171)، فهو جمع بين إثبات مقام الألوهية لله تبارك وتعالى، وتنزيه له عن الشريك والمثيل.

على أن هناك نصوصا شرعية بينت هذه القضية بشكل واضح، أجلاها وأوضحها هي قول الله عز وجل: {ولقد بعثا فى كل أمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل: 36)، فالإثبات الوارد في الآية موجود في قوله تعالى: {اعبدوا الله} والنفي وارد في قوله تعالى: {واجتنبوا الطاغوت} فلابد إذن من الجمع بين النفي والإثبات، النفي للمعبودات الباطلة والإثبات للعبودية الحقة لمستحقها سبحانه دون غيره.

وبين يدينا قصة من أعاجيب القصص، أخبرنا بها سلمان الفارسي رضي الله عنه، والأثر قد اختلف في رفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، المهم هو فحوى هذه القصة التي تتحدث عن حادثة غريبة وقعت في الأزمان الماضية، والأمم الغابرة، تصب في هذا المعنى، يقول سلمان رضي الله عنه: دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل آخر النار في ذباب، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: مر رجلان ممن كان قبلكم على ناس معهم صنم، لا يمر بهم أحد إلا قرب لصنمهم، فقالوا لأحدهم: قرب شيئا، قال: ما معي شيء، قالوا: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا ومضى فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب شيئا، قال: ما كنت لأقرب لأحد دون الله. فقتلوه فدخل الجنة. رواه أحمد في كتاب الزهد، وأبو نعيم في الحلية.

وسبحان الله الذي ضرب لنا في الحياة هذه الأمثال حتى نعلم حقائق الأشياء، فنحن أمام ذبابة حقيرة، استحق بسببها رجل النار، ونال لأجلها رجل الجنة، وكان الأول عاصيا، والآخر طائعا.

لقد كان محل الاختبار في هذه الحادثة ذبابة، وإن اكتفاء هؤلاء المشركين بتقريب الذباب اعتداد بأضعف مظاهر الطاعة، إذ المقصود الأعظم هو اعتقاد القلب، أما الخاسر فكان في قربانه ارتياح القلب لما هو من معتقدات الأمم المناوئة لمبادئ الإسلام، فاختار أن يقدم رموز الولاء والطاعة بأحقر الأشياء وأدناها، وتقريب القرابين هو عبادة من العبادات بصرف النظر عن طبيعة القربان، فصرفها لغير الله سبحانه وتعالى شرك، قال الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين*لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام:162-163)،وقوله سبحانه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء:48) وقوله تعالى: {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} (المائدة:72).

ولنتأمل قوله تعالى: {يعبدونني لا يشركون بي شيئا} (النور:55) فكلمة "شيء" كما يقول علماء اللغة نكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي أنها تعم كل ما يمكن أن يطلق عليه "شيء" مهما كان وزنه وحجمه وطبيعته.

وقد كان يسع ذلك الرجل الذي طولب بالقربان، أن يمتثل للتهديد وقلبه مطمئن بالإيمان، ممتليء باليقين، واثق بسذاجة ما عليه القوم، كاره لمواقعة الكفر، كيف وقد قال الله: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (النحل:106).

فإلى المتهاونين في أمور الشرك، وإلى المكثرين من اللوم والتقريع لدعاة التوحيد والواصفين لهم بالمبالغة، وإلى الذين لا يدركون لزوم هذه النظرة المتوازنة بين النفي والإثبات، ولا يفهمون أن بالنفي أو الإثبات يكون المرء موحدا ما لم يجمع بينهما معا، نقول لهم ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات، رواه البخاري.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة