أهمية دراسة الحروب الصليبية

0 950
  • اسم الكاتب:د. راغب السرجاني بـــــ\\\"تصرف\\\"

  • التصنيف:تاريخ و حضارة

القصة في القرآن الكريم
لا يخفى على من يقرأ القرآن الكريم أن أسلوب القصة يعد من الأساليب الرئيسية لتوصيل فكرة أو تفهيم معنى. ولا يخفى على قارئ القرآن الكريم أيضا أن القصص فيه لا يذكر إلا متبوعا بعبرة أو درس أو فائدة، وأنه قد بني بصورة تجعل القصة قريبة جدا إلى التطبيق الواقعي في حياتنا، حتى لكأنك ترى الأحداث رأي العين، وحتى لكأنك تعلم هؤلاء الأشخاص، وتعايشهم في حياتك الشخصية، ولكن بأسماء مختلفة؛ فهذا يفعل مثلما كان فرعون يفعل في القصة، وهذا يشبه قارون، وآخر يسير على خطا طالوت، ورابع يحاكي ذي القرنين في سيرته، وهؤلاء يشبهون قوم بني إسرائيل في مرحلة معينة من مراحل حياتهم، وآخرون يعيشون حياة قوم ثمود، وهكذا.

إن كل النماذج التي نراها في حياتنا لها أمثلة متشابهة في القرآن الكريم، حتى أصبح القرآن دليلا واضحا لطريقة الحياة التي ينبغي أن نكون عليها، وكل ذلك من خلال القصة؛ ولذلك يأمر ربنا I المؤمنين بقص القصة، ورواية الرواية، يقول تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف: 176].
وتاريخ الإنسانية كنز عظيم، فيه من التجارب والخبرات ما لا يقدر بثمن، وخطأ كبير أن يقع الحكيم فيما وقع فيه السابقون، وذنب عظيم أن نتوه في الدروب، وفي أيدينا دليل النجاة. ولقد ضلت أمتنا كثيرا لأنها أهملت تاريخها وتاريخ البشر، بل - وللأسف الشديد - فإنها عندما قرأت تاريخها قرأته على يد مبدلين ومغيرين زوروا الكثير من الصفحات، وشوهوا العديد من الرموز، وبدلوا القصص، وقلبوا أحداثها؛ فصار الصالح طالحا، وأصبح المفسد حكيما، وبهذا ضاعت العبر، واختفت الدروس، وفقد المسلمون أحد أهم كنوزهم.
لذا كان لزاما علينا أن نقوم بحملة دراسة شاملة لدراسة التاريخ الإسلامي من كل جوانبه؛ فنصحح كل هذه التجاوزات، ونعيد الأمور إلى نصابها، وبالتالي نستطيع الاستفادة من هذا الكنز الهائل.

لماذا دراسة قصة الحروب الصليبية؟
يقع بين أيدينا موضوع من أهم الموضوعات التاريخية، وهو قصة الحروب الصليبية، وهي قصة في غاية الأهمية، ودراستها حتمية لفهم كثير من الأمور، سواء في التاريخ أو في الواقع؛ فدراسة هذه القصة مهمة لفهم التاريخ الإسلامي، وهي كذلك مهمة لفهم واقعنا الذي نعيش فيه الآن.
لذا قد وقع اختيارنا على دراسة قصة الحروب الصليبية لعدة أسباب، كان منها:
أولا: فترة طويلة من التاريخ الإسلامي بل والإنساني
إنها أكثر من مائتي سنة، أي ما يمثل 1/7 التاريخ الإسلامي، فإن كنا نرى للتاريخ الإسلامي أهمية، فلا شك أن دراسة هذه الفترة أمر في غاية الأهمية.
وليست دراسة هذه الفترة مهمة للمسلمين فقط، بل اهتم بها الأوربيون وغيرهم من مفكري العالم وعلمائه؛ فقد ظلت الحروب الصليبية مسيطرة على الفكر الأوربي وعقلية الأدباء والشعراء وعموم الناس أكثر من ثلاثة قرون متصلة، وذلك من سنة (488هـ) 1095م حين بدأت هذه الحروب وحتى سنة (802هـ)1400م بعد انتهائها بقرن كامل، بل وظل الاهتمام بها مستمرا في كل جامعات ومعاهد أوربا وأمريكا إلى الآن، حتى إنه في دراسة قام بها المؤرخ نورمان كانتور وجد أن الحادث الوحيد الذي يعرفه الخريج العادي من الجامعات الأمريكية فيما يتعلق بتاريخ العصور الوسطى هو الحملة الصليبية الأولى، ووجد أيضا أن انطباعات هؤلاء الخريجين عن هذه الحملة إيجابية جدا.

ثانيا: فهم الأيدولوجيات المختلفة للأطراف المتصارعة
ولأن هذه الفترة طويلة فإننا نستطيع أن نرصد فيها الأيدولوجيات المختلفة للأطراف المتصارعة، فإن أفكار المجتمع الغربي وأهداف محركي الجموع والجيوش وواضعي السياسيات والنظم قد تكون شاذة عن المألوف لو كانت عابرة أو مؤقتة، ولكن ثبات هذه الأيدولوجيات عشرات السنين أو مائتين من السنين يؤكد أن هذه الأيدولوجيات عقائد ثابتة راسخة، وليس مجرد فكرة طارئة خرجت من ذهن متهور أو جاهل.
وبهذا سنفهم خلفيات الغرب الأوربي في حربه للمسلمين، وهي الخلفيات التي حكمت الصراع قديما بين المسلمين والنصارى من الدولة الرومانية، كما سنفهم خلفيات المجاهدين المسلمين وطرقهم في الحرب، وفي المعاهدة، وفي التعامل مع غير المسلمين، ومناهجهم في التغيير.
إنها دراسة رائعة في نفسيات البشر، وأدبيات الصراع بين القوى المختلفة، خاصة إذا كان الإسلام طرفا في القضية.

ثالثا: مدى التشابه العجيب بين التاريخ والواقع المعاصر
يبرز احتياجنا لدراسة الحروب الصليبية بدرجة أكبر عند رؤية التشابه العجيب بين هذه الحقبة القديمة التي مر عليها أكثر من تسعة قرون، وبين زماننا المعاصر الذي نعيش فيه الآن.
فكما قامت قوات التحالف الغربي بغزو العالم الإسلامي، وكما رأينا التكاتف بينهم لحرب واحدة، وكما رأينا التعاون بين الساسة والحربيين ورجال الدين وأهل الاقتصاد والعلوم لإمضاء هذه الحرب وإنفاذها، فإننا نرى الآن نفس هذا التكاتف والتعاون والتنسيق لحرب العالم الإسلامي في أكثر من بقعة.
وكما رأينا غزو الصليبيين للشام وفلسطين وأجزاء من تركيا ومصر بل والحجاز، نرى الآن الهجمات المستمرة، والجهود المتتالية التي نجحت في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي مثل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير والبوسنة وكوسوفو، ونراها تخطط بحرص وتدبير في السودان والصومال ولبنان وسوريا، وليست مصر أو باكستان أو تركيا ببعيدة عن الخطر.
وكما رأينا كيانا غريبا يزرع في فلسطين عرف بعد ذلك بمملكة بيت المقدس الصليبية، ورأينا هذا الكيان يستمر عشرات السنين، ورأيناه يمد بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي، رأينا أيضا الآن الكيان اليهودي الصهيوني يزرع في نفس الأرض، في فلسطين، ويمد بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي أيضا.

وكما رأينا الفكر الاستيطاني الذي كان من محركي الحروب الصليبية، وكيف أنهم جاءوا برجالهم ونسائهم وأطفالهم لا لينتصروا في معركة ويعودوا بغنائم، ولكن ليعيشوا ويستقروا ويمتلكوا وينسوا تماما روابطهم القديمة وجذورهم الأصلية؛ كما رأينا ذلك رأينا الآن اليهود الصهاينة يقومون بنفس الشيء ويهاجرون إلى الأرض المباركة بكل عائلاتهم ليستقروا بلا عودة.
وكما رأينا التخاذل من كثير من زعماء العرب والمسلمين، وظهور نماذج مخزية في تاريخ الحروب الصليبية تفسر الانهيارات المروعة التي حدثت في مقاومة المسلمين للمد الصليبي، نرى الآن نفس التخاذلات وبنفس الروح، وبصورة تكاد تتطابق، فلا يهب جيش ولا زعيم لنصر المكروبين في بلاد العالم الإسلامي المحتل.
وكما رأينا حرصا من أعداء الأمة على منع الوحدة بين ولايات الشام، وعلى منع الوحدة بين مصر والشام، وعلى منع الوحدة بين أي زعيمين مسلمين؛ لأن في هذا بقاء لهم أطول وأعظم، رأينا نفس الحرص من الغرب الصليبي في زماننا، وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح؛ فلا تكاد ترى قطرين مسلمين متجاورين إلا وبينهما صراع ونزاع.
وأوجه التشابه أكثر من أن تحصى، وعند دراسة القصة بشكل تفصيلي سنشعر وكأننا لا نقرأ صفحات من تاريخ مضى، ولكن نقرأ واقع حياتنا، وقصة مجتمعاتنا التي نعيش فيها الآن.

رابعا:
وضوح طبيعة الاختلاف الفكري والفقهي والعقائدي بين السنة والشيعة
يظهر أيضا بجلاء في قصة الحروب الصليبية الاختلاف الفكري والفقهي والعقائدي في قضية حساسة جدا داخل كيان الأمة الإسلامية، وهي قصة السنة والشيعة، وذلك أن الأحداث تدور في منطقتي الشام ومصر، وهما واقعتان تحت سيطرة سلجوقية سنية من جهة، وعبيدية فاطمية شيعية من جهة أخرى، وهذا أفرز مواقف كثيرة تعين على فهم دقائق الأمور في زماننا الآن، وكذلك مستقبلا.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة