أنوار قرآنية: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}

0 16829
  • اسم الكاتب:إسلام ويب ( أ. د عبدالسلام مقبل المجيدي )

  • التصنيف:في ظلال آية


بين محبة السجن ومحبة العافية: أيهما أفضل؟


هذا الآية المباركة من سورة يوسف -عليه السلام- {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} [يوسف:33] كثر إيرادها ضمن فهم غير صحيح في الآونة الأخيرة، حيث يستشهد بها بعض الناس على أن يوسف –عليه السلام- لما ذكر أن السجن أحب إليه أعطاه الله السجن مع أنه لو سأل الله العافية لعافاه، ويقدمون لذلك بالحديث الذي رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟)) قال: نعم، كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)) قال: فدعا الله له فشفاه.

ثم يقولون: البلاء موكل بالمنطق ويوردون أثرا عن يوسف -عليه السلام- لما طال عليه الوقت في السجن قال: يارب جعلتني في السجن طويلا!
فقال الله: أنت سألت السجن فأعطيناك، ولو سألت العافية لعافيناك، ويعنون أنه قد ورد في القرآن على لسان يوسف عليه السلام: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}!

تقويم المسألة:

أولا: لا تصل الجرأة إلى أن يجعل من يعلم الخلق التوحيد هو من تستدرك عليه حقائق التوحيد، ومثل ذلك ما ذكره بعضهم -كما في تفسير الرازي- في قوله تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} حيث ذكر أن من الأقوال الواردة فيه: أن الضمير راجع إلى يوسف، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه، وأن تمسكه بغير الله كان مستدركا عليه، لأن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله، وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام، فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال: هل من حاجة، فقال أما إليك فلا، فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض، وذلك التوحيد، ودعاه إلى عرض الحاجة إلى المخلوقين....

ولا شك أن هذا فهم لا يليق ووضع للأشياء في غير موضعها، وتخيل هذا الاستدراك والفهم مع ما ورد من قول يوسف -عليه الصلاة والسلام- مبينا للناس التوحيد، والتوكل على رب العبيد: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38) يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف:38، 39].

مع أن الكريم بن الأكارم -عليهم وعلى نبينا وأنبياء الله أجمعين الصلاة والسلام- لما قال: {اذكرني عند ربك} [يوسف:42] لم يزد على أن يتبع ما أمره الله به من اتخاذ الأسباب مع التوكل والاعتماد على مسببها، وبذا أقيم الكون وقامت نواميس السموات والأرض، ولذا روى الترمذي الحديث الصحيح عن أسامة بن شريك قال : قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى ؟ قال: ((نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو قال دواء إلا داء واحد)). قالوا يا رسول الله وما هو ؟ قال ((الهرم))، وفي مسلم عن جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ((لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل))، ولذا ندب الشفاعة الحسنة، وقال: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}[النساء:85]، وأمر بالسير في الأرض ابتغاء فضل الله لا الجلوس في البيوت والمحاريب، وجعل هذا السير معادلا للجهاد في سبيل الله فقال سبحانه: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} [المزمل:20]، ونبه إلى أهمية العمل والكسب وعدم الاتكال عليه فقال: {هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون} [يونس:52]، وروى الترمذي عن أنس بن مالك يقول : قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: ((اعقلها وتوكل)). 

والمقصود أن يوسف -عليه الصلاة والسلام- لم يزد على أن اتخذ السبب الذي شرع الله تعالى اتخاذه، ولم يعتمد عليه بل فوض أمره إلى ربه، واتكل عليه  فيما يستقبل من نتائج، ولذا لم يستعجل الخروج لما جاءه رسول الملك في موقف من أعجب مواقف البشرية نبلا وحلما وثقة بالله واعتصاما به، وعليه قول القائل:

أختاه يفقد هذا الكون معناه    لولا رضانا بما يقضي به الله
إذا وصلنا برب الكون أنفسنا   فما الذي في حياة الناس نخشاه

ثانيا: أصل الفكرة المذكورة في أن الإنسان محاسب على ما يلفظ به صحيح فإن اللسان محل المحاسبة خيرا أو شرا كما قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق:18]، وفي مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يببين ما فيها يهوى بها فى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))، وعند أحمد –بسند صحيح- عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يرى ان تبلغ حيث بلغت يهوى بها في النار سبعين خريفا))، وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)).

ثالثا: هذه القضية في جهة، وما قاله الصديق يوسف -عليه السلام- في جهة أخرى، فإن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم –عليهم السلام- قد قال أجمل عبارة تنسج على منوالها الأمثال، ولجأ إلى الله تعالى بأفضل ابتهال، وردد أعذب دعاء يصعد إلى الكبير المتعال، وجاءت حروفه لتزين كلمات السادة النبلاء الأطهار في اللجوء إلى العظيم القهار، فجمع بين عظمة العبارة، وجمال الإشارة، وجلال المعنى، وحلاوة المبنى .. فكيف يأتي قوم لم يفقهوا جمال المعاني، وألق المباني ليظنوا بسيد من سادات المعتصمين بالله من الفتن أنه زل أو شطن؟ حاشاه –عليه وعلى نبينا وعلى أنبياء أفضل الصلاة والسلام-.

رابعا: اعتمد –هؤلاء- في استدراكهم على يوسف عليه السلام –وهم لا يشعرون أنهم لا يستدركون- على أثر لا يعرفه أحد إلا ما كونته الخيالات، ولم توجد له إشارة في كتب الفحول الأثبات من المحدثين والمفسرين والعلماء الثقات، وهو قولهم (البلاء موكل بالمنطق)؟.

خامسا: إيرادهم لحديث الإمام مسلم مناقض تماما لحال يوسف –عليه وعلى نبينا وعلى أنبياء أفضل الصلاة والسلام- فإن ذلك الحديث يبين أن الرجل سأل الله العقوبة، والكريم بن الكرماء -عليهم الصلاة والسلام- سأل الله العصمة من إثم يستوجب العقوبة فكيف يستويان؟.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة