كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم

0 1144

لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ما يصيب أصحابه من العذاب والبلاء ـ من كفار قريش ـ، أشار عليهم أن يهاجروا إلى الحبشة، لعلمه أن ملكها النجاشي ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فخرج أول فوج من الصحابة مهاجرا إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، وكان رحيلهم تسللا تحت جنح الظلام، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت في إثرهم، وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه في طريقهم إلى الحبشة، حيث وجدوا الأمن والأمان، والحفاوة والإكرام من ملكها النجاشي .
وتصف أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ هذا الحدث فتقول: ( لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا ( جماعات ) حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلما ) رواه البيهقي .

ولما عاد مهاجروا الحبشة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن أعجب ما رأوه بأرض بالحبشة، فعن جابر - رضي الله عنه - قال: (لما رجع مهاجروا البحر ( الحبشة ) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟! ، قال فتية (جماعة) منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، إذ مرت عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فقام إليها فتى من فتيانهم فوضع إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت، التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر (غادر)، إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف يكون أمري وأمرك عنده غدا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت .. صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ؟! ) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني .
قال السندي: ( يقدس الله ) أي: يطهرهم من الدنس والآثام " .
وقال المناوي: " ( كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ): استخبار فيه إنكار وتعجب، أي: أخبروني كيف يطهر الله قوما لا ينصرون العاجز الضعيف على الظالم القوي، مع تمكنهم من ذلك؟!، أي: لا يطهرهم الله أبدا، فما أعجب حالكم إن ظننتم أنكم مع تماديكم في ذلك يطهركم! ".

لقد بين لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مواقف وأحاديث كثيرة: أن الظلم عاقبته وخيمة، وأن الله ـ عز وجل ـ يأخذ من الظالم للمظلوم حقه يوم القيامة، فلا يدخل أحد الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة، ولا يدخل أحد النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) رواه مسلم، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) رواه البخاري .
والسيرة النبوية مليئة بالأحاديث والمواقف التي حرص النبي - صلى الله عليه وسلم ـ من خلالها على بيان خطورة الظلم، فلا قوة ولا أمان لأمة وهي ظالمة، ولا علو لمجتمع بغير العدل، قال الله تعالى: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين }(الأنبياء الآية: 11)، وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الله ليملي (يمهل) للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال: ثم قرأ: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }(هود الآية: 102) .
قال المناوي: " وفيه تسلية للمظلوم في الحال، ووعيد للظالم لئلا يغتر بالإمهال، كما قال تعالى: { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار }(إبراهيم الآية: 42) " . 
وفي مقابل الظلم أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إقامة العدل مع القريب والبعيد، والمساواة في إقامة الحدود بين الناس غنيهم وفقيره، وشريفهم ووضيعهم، وفي قصة المرأة المخزومية التي سرقت في غزوة الفتح دليل واضع على ذلك .
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ( ومن يكلم فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكلمه أسامة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أتشفع في حد من حدود الله؟، ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) رواه البخاري .

إن موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يعلق فيه على ظلم ارتكبه شاب في أرض الحبشة في حق امرأة عجوز، فيقول: ( كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ؟! ) ينفي فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القداسة والطهارة عن الأمة التي تتسامح مع الظالم، ولا تنتصر للضعيف، وأن الأمة التي تنتصر للضعيف وتأخذ الحق له يثني عليها ولو لم تكن مسلمة، ولهذا قال ابن تيمية: " إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة " .
وقال ابن عثيمين: " فالمظلوم يستجيب الله دعاءه حتى ولو كان كافرا، فلو كان كافرا وظلم ودعا على من ظلمه أجاب الله دعاءه، لأن الله حكم عدل ـ عز وجل ـ، يأخذ بالإنصاف والعدل لمن كان مظلوما ولو كان كافرا، فكيف إذا كان مسلما ؟! " .
فالظلم له عواقب سيئة على الأفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة، وصدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل:( كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ) ، ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) رواه مسلم .
 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة