همسة في التزكية والتغيير

0 1212

(التزكية هي تلك الرحلة الطويلة والشاقة لإقامة النفس على الحق وفطامها عن الهوى والباطل، حتى تكون رهن إشارة الوحي والتنزيل بكل رضا وإذعان.
وهي الخطوة الأولى للسير على طريق التغيير. فهي بمثابة بناء ذلك الإنسان المؤهل لإجراء التغيير ... فيفجر الطاقات الكامنة. ويوظفها في إنشاء الحياة الطبية والحضارة الشامخة ... بعد أن انتصر على معركته الأولى مع نفسه..وأصلح تلك المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب ).

(فالتزكية تعني أن أسلك السبيل الذي يخلصني من كبريائي .. ويخلصني من أنانيتي .. ومن الأحقاد والضغائن .. ومن تعشق الدنيا التي وصفها الله بأنها فانية وبأنها عرض زائل ... وأن أجعل من قلبي مرآة لحب خالد باق ، بعد مسح حب عرض الحياة الدنيا الفاني ).

ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: (إن تغيير النفس وإصلاحها ينبغي أن ينطلق من تصحيح معتقداتها على أساس توحيد الخالق..وتصحيح قناعاتها ومفاهيمها عن الكون والحياة والإنسان والتاريخ والفرد والمجتمع.. والمرأة والرجل..والدين والحكم..
ومن هنا وجدنا الاستخراب (الاستعمار) حين دخل بلاد المسلمين؛ جعل همه الأكبر في تغيير مفاهيمها وأفكارها عن طريق التعليم والثقافة والإعلام.. فيغرس في الأذهان:

أن الدين لا علاقة له بالسياسة..وأن الدين لا علاقة له بالأخلاق..وأن الحرية فوق القيم..وأن المرأة مساوية تماما للرجل..وأن الأزياء - وما يتعلق بها من أمور - خاضعة للعرف والتقاليد لا للشرع..).

فإذا وثقت النفس أنها بدأت تستوي على الطريق الصحيح؛ فإنها تكون مهيئة حينئذ للإصلاح ودعوة غيرها انطلاقا من قاعدة: (أصلح نفسك وادع غيرك).
• كن أنت قدوة لأهلك وجيرانك وأصحابك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة لأمته في كل شيء.

وكذلك تجسدت القدوة الصالحة في صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان، وبتلك القدوة انتشر الإسلام شرقا و غربا.
ووصل الإسلام إلى كثير من البقاع على أيدي تجار مسلمين، ودعاة صادقين، جعلوا من أنفسهم القدوة والصورة الحسنة للإسلام.
فهل نحن صورة صادقة للإسلام؟

هل نعطي الآخرين من غير المسلمين الذين يفدون إلى بلادنا، صورة المسلم الصادق الأمين، الذي لا يكذب ولا يغش ولا يخدع، ولا يأكل أموال المسلمين، ويحافظ على أعراضهم وعهودهم، يفي بالوعد ولا يقول: ((سيأتي في الموعد إن شاء الله)) وهو يعلم في حقيقة نفسه أنه سيخلف هذا الموعد، ولن يأتي أبدا؛ حتى جعلنا - للأسف - هذه الكلمة مثار تهكم واستهزاء من الأجانب في بلادنا!!.
ورحم الله الشاعر الذي يوبخ أولئك الذين يعلمون غيرهم بما لا يفعلونه فيقول:
فـيـا أيـهــا الـرجــل المـعـلـم غـيــره     هــــلا لـنـفـسـك كــــان ذا الـتـعـلـيـم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا     كـيـمـا يـصــح بـــه وأنـــت سـقـيــم
ابــدأ بنفـســـك فانهـهـا عـــن غـيـهـا      فــإذا انـتـهـت عـنــه فـأنــت حـكـيـم
فهنــاك يقـبـل مــا وعـظـت ويقـتـدى      بـالـعـلـم مــنــك ويـنــفــع الـتـعـلـيـم

ذكر الجاحظ أن عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدب قال له:(ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك..فإن أعينهم معقودة بعينك..فالحسن عندهم ما استحسنت..والقبيح عندهم ما استقبحت..وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء..وكن لهم كالطبيب الذي لا يعمل بالدواء حتى يعرف الداء).
ويقول سفيان الثوري في وصاياه لعلي بن الحسن:(يا أخي! عليك بتقوى الله، ولسان صادق، ونية خالصة، وأعمال صالحة, ليس فيها غش ولا خدعة، فإن الله يراك وإن لم تكن تراه، وهو معك أينما كنت، ولا يخفى عليه شيء من أمرك.
لا تخدع الله فيخدعك ويخلع منك الإيمان وأنت لا تشعر، ولا تمكرن بأحد من المسلمين المكر السيئ, فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله..ولا تبغين على أحد من المسلمين، فإن الله تعالى يقول:{يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } (يونس: 23)
وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك.

وأصلح فيما بينك وبين الله، يصلح الله فيما بينك وبين الناس..واعمل لآخرتك، يكفيك الله أمر دنياك.
بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولاتبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا..عليك بالصدق في المواطن كلها، وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها، فإنها وزر كلها..وإياك والعجب، فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ..ولا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفق على دينه، كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه وينصح لنفسه، فكيف يعالج داء الناس و ينصح لهم؟!...)).

ثانيا : سنن التغير في الكون:

تذكر يا أخي أن هناك سننا كونية في التغيير لا تتبدل على مر العصور لأنها السنن الإلهية. ومن هذه السنن:
1- التغيير ضروري حتى تستقيم الحياة وتطهر الأرض من الظالمين:قال تعالى:{ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} (9 ).
2- التغيير مرهون بسلوكيات البشر، قال تعالى:{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } (الرعد: 11)
3- التغيير إلى الأسوأ مرتبط بظلم العباد (الإساءة): قال تعالى: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين} (الأنبياء:11).
4-التغيير إلى الأحسن مرهون بعمل الصالحات (الإحسان):قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة ولتجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل :97).

5- أن الإحسان والإساءة يدوران في خلل الهوى والضلال قال تعالى: {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى} (طه :123 - 124).
وقال تعالى: {فأما من طغى * وءاثر الحيوة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} (النازعات :37 - 41).

6- التغيير أداة تمحيص وابتلاء لتمييز الصالحين من عباده:قال تعالى: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون } (العنكبوت:1-2).
وقال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء } (آل عمران :140).

ثالثا : مفهوم التغيير:

يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في شرح مفهوم التغيير:إنهما تغييران لا ثالث لهما :
أحدهما: يتعلق بعالم المادة الذي من حولنا. وقد تكفل الله عز وجل به، وحمل ذاته العلية هذا التغيير.
التغيير الثاني: يتعلق بالنفس الإنسانية، من حيث تعلق هذه النفس بالله عز وجل. وهذا هو التغيير الذي حمل الله الإنسان مسؤوليته.
فكأن الله عز وجل يقول: يا بن آدم عليك أن تعود إلى نفسك، فتقيم علاقتك معي على النهج الذي تقتضيه فطرتك .. وعلى النهج الذي تقتضيه ربوبيتي .. أضمن لك أن أغير الدنيا من حولك .. وأخضعها لسلطانك وحكمك..
ألم تسمعوا جيدا إلى قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم} (إبراهيم: 13 – 14).
هذا هو قرار الله في إخضاع المادة لهؤلاء المؤمنين، ثم أعطانا القانون فقال:{ ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}(إبراهيم :14).
أنا سأخضع الدنيا لهؤلاء الناس..ولسوف أجعل أنظمة الكون تدور على رغائبهم طبق قانون كلما تكرر، تكرر هذا العطاء. وعبر عن هذا القانون بكلمة أخاذة جامعة فقال: { ذلك} - أي هذا القانون يتكرر وليس حالة عابرة: { لمن خاف مقامي وخاف وعيد }.

من الشباب من يريد استعجال النتائج .. يقول: عملنا .. وعملنا، ولم نر نتيجة بعد!!.
فكأنه يريد أن يعمل اليوم .. ويحصد نتائج عمله في الغد.
ولكن سنن الله في الكون غير ذلك .. فقد أرسى الله الحياة على الارتقاء والتدرج .. فلا الشمس تشرق فجأة .. ولا النبتة تظهر فجأة .. وكذلك حال الدين.
ولقد استعجل بعض الصحابة النتائج. فماذا أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: " والذي نفسه بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من حضرموت إلى اليمن..أو من اليمن إلى حضرموت..لا يخشى إلا الله و الذئب على غنمه .. ولكنكم تستعجلون "!!.
فهكذا الحياة .. صعود تارة..وهبوط تارة أخرى..عقبات وعراقيل..وهضاب وسفوح..إلى أن تصل إلى غايتك في هذه الحياة. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(كتاب همسة في أذن شباب)

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة