عبودية القلب في رمضان

0 823

يرفع الله أعمال العباد إليه في شهر شعبان من كل عام، فقد سأل أسامة بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا له: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم][أخرجه أحمد، وحسنه الأرناؤوط].

فيأتي رمضان لتكون الصفحة الأولى من السنة الحسابية الجديدة بداية لعلاقة جيدة وجديدة بين العبد وربه؛ فهو شهر عظيم نتنسم فيه روائح القرب من الله. وإن الله سبحانه وتعالى ليتفضل على عباده في أيامهم بنفحات، قال صلى الله عليه وسلم: [إن لربكم سبحانه وتعالى في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها؛ لعل أحدكم أن تصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا][الطبراني في الأوسط]، فتكون أيام رمضان بنفحاتها دافعا لهم طوال العام.

والصوم عبادة بين لنا ربنا - جل وعلا - الحكمة منها، فقال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}[البقرة:183]، "وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة؛ طاعة لله، وإيثارا لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال"[ في ظلال القرآن1/140].
والتقوى عمل قلبي تظهر آثاره على الجوارح؛ فإذا كان القلب ممتلئا بالإيمان انزجرت الجوارح عن العصيان، وإذا وقع فيها نزع سريعا: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}[الأعراف:201]، وإذا كان القلب لاهيا عبثت الجوارح ورتعت في أودية الضلال والسفه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.. ألا وهي القلب][البخاري].
وقد شبه أبو هريرة القلب بالملك المتبوع فقال: “القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده”[مصنف ابن أبي شيبة: 11/221]. فلذلك؛ يجب متابعة هذا القلب وتفقد أحواله؛ لأنه كثير التقلب من حال إلى حال، والشياطين لا تريد لهذا القلب أن يستقر أو يطمئن، لذلك تجدها ترسل سراياها سرية إثر أخرى لاقتحامه والعبث فيه، ونشر الظلام في جنباته، ومحاولة طمس نور الإيمان والهداية.

ولذلك اعتبر ابن الجوزي أن القلب كالحصن، وعلى ساكني هذا الحصن ألا يغفلوا لحظة عن تحركات أعدائهم، وإلا سقط الحصن وتخرب، واستبيحت بيضته للأعادي، فقال: “اعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسور أبواب، وفيه ثلم، وساكنه العقل، والملائكة تتردد إلى ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض فيه الهوى، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع، والحرب قائم بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم؛ فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه، وجميع الثلم، وأن لا يفتر عن الحراسة لحظة؛ فإن العدو ما يفتر”[ تلبيس إبليس:50].

وعدو الإنسان الأول هو الشيطان الذي لم ييأس من غواية بني آدم منذ أبيهم الأول حتى قيام الساعة، وقد هيأ الله في رمضان من الأسباب المعينة على الطاعة ما يجعل الإنسان قادرا على مواجهة الشياطين طوال العام، بل إن ربنا سبحانه ليتفضل على عباده بأنه يقيد الشياطين ليعلم عبده أن الشياطين أضعف مما يتصور، وأنهم ما سلطوا عليه إلا عندما ترك لهم نفسه فريسة لهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة][الترمذي].

الصيام وصلاح الباطن:
وبصلاح الباطن ينصلح الظاهر، وما المنافق إلا إنسان أظهر صلاحا، وأبطن كفرا بواحا؛ لذلك كان الصوم لإعادة التوازن بين الظاهر والباطن، فهو عبادة باطنة، وسر بينك وبين ربك، قد لا يطلع عليه أقرب الناس إليك؛ لذلك كان الجزاء عليه غير مقدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به][البخاري].
فهنا يتجلى إخلاص العبادة لله، وتمحضها له، حيث لا رياء، وما يضيع الأعمال إلا أن يتوجه بها العبد إلى الناس قبل رب الناس، فعندئذ يتركه ربنا - تبارك وتعالى - ليأخذ أجره من الناس، وأنى لهم ذلك؟ فالصوم معاملة بين العبد والرب، “وإنما خص الصوم بأنه له - وإن كانت العبادات كلها له -، لأمرين:
أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
الآخــر: أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره”[ تفسير القرطبي:2/274].

وإذا كان السر معقودا بينك وبين ربك فهنا يتجلى اليقين في موعود الله بالمغفرة والثواب الجزيل، ولا يثقل على العبد الصيام، بل يلتذ بترك الشهوات في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه][متفق عليه].
يلتذ لأنه اعتقد بحق فرضية صومه، واحتسب هذا الصيام طلبا للثواب من الله تعالى، قال الخطابي: “احتسابا، أي: عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه”[ فتح الباري: 4/115].

الصوم حرية:
وبالصوم يتحرر الإنسان من قبضة الطين التي تجذبه إلى الأرض، وتجعله أسيرا لشهواته وملذاته، فهو بصيامه كأنه ملك يسير على الأرض. وبالصوم يوازن المسلم بين متطلبات الجسد من طعام وشراب وشهوة، ومتطلبات الروح من قرب إلى الخالق بالطاعة والتسليم. وإذا لم يثمر الصيام ثمرته الحقيقية بمجانبة الفواحش والآثام والمعاصي، فما قيمة هذا الصيام؟ ما قيمة أن تمتنع عما أحل الله لك وتواقع ما حرم الله عليك أصلا؟ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه][البخاري].
ما أعظم أن يكون المسلم حرا، ولا يكون أسيرا لأي شهوة مهما عظمت، وأن يكون عبدا خالصا لله. وما أذل من استعبدته شهوته، فما استطاع الفكاك منها، فكانت شهوته هي المحرك له، ولن تكون هذه الشهوة إلا في طريق غير طريق الهدى والصلاح..

درجات الناس في الصوم:
وقد حاول حجة الإسلام الغزالي أن يقسم درجات الناس في الصوم فقال: “اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. وأما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله سبحانه وتعالى بالكلية”[ إحياء علوم الدين: 1/234].
فهو هنا يترقى بمنازل الصائمين؛ حيث إن بعضهم يرى أن الصوم مجرد ترك الطعام والشراب والنكاح، وقد يطلق لنفسه العنان بالنظر إلى العورات، أو سماع المحرمات، أو ما شابه ذلك. فنبه الغزالي إلى أن الصوم أعظم من ذلك، وأن التربية بالصوم يترقى العبد بها ومن خلالها لأن يكون جسده على الأرض، وقلبه معلقا بالعرش.

ونختم بقول ابن الصباغ الجذامي عن رمضان:
هذا هــلال الصوم من رمضان .. .. بالأفق بان فلا تكن بالواني
وافاك ضيــفا فالــتزم تعظـــيمه .. .. واجعل قـــراه قراءة القرآن
صمه وصـنه واغـتـنم أيامـه .. .. واجبر ذما الضعفاء بالإحسان
واغسل به خط الخطايا جاهدا .. .. بهـمول وابـل دمـعك الهــتان
لا غرو أن الدمع يمحو جريه .. .. بالخــد سكبا ما جـناه الجاني
لله قــوم أخلـصــوا فتـخـلـصوا .. .. من آفــة الخسران والخذلان
هجروا مضاجعهم وقاموا لـيله.. .. وتوســلوا بالــذل والإذعــان
قاموا على قدم الوفاء وشمروا .. .. فيــه الذيــول لخــدمة الديان
ركبوا جياد العزم والتحفوا الضنا..وحدا بهم حادي جوى الأشجان
وثبوا وللزفرات بين ضلوعهم .. .. لهب يشب بأدمــع الأجــفان
راضوا نفوســهم لخـدمة ربهم .. .. ولذاك فازوا منه بالرضوان
إن لم تكن منهم فحالفهم عسى .. .. تجني بجاههم رضــا المنان
حالفهم والــزم فديتـك حـبهم .. .. واجعله في دنياك فرض عيان
يا لهف نفسي إن تخلفني الهوى .. .عن حلبة سبقت إلى الرحمن
فلأنزفن مدامــعي أسـفــا عـلى .. .. عمر تولى في هوى وتـوان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة للبيان:325

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة