أما إنه من أهل النار

0 1607

السعيد من يختم له بخير، والشقي من يختم له بسوء، والأعمال بخواتيمها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سييء لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه) رواه أحمد وصححه الألباني.
والناس في خواتيم حياتهم وأعمالهم بين عبد يختم له بخير وطاعة، وآخر يختم له بشر ومعصية، وهذا المعنى ظهر بصورة واقعية في غزوة خيبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الذي تحدثت أنه من أهل النار، قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال، فكثرت به الجراح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته، فانتزع منها سهما فانتحر بها، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله صدق الله حديثك، قد انتحر فلان، فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال! قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) رواه البخاري.

وفي رواية أخرى للبخاري وغيره عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة (ما صغر وكبر) إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه (ألازمه) .. قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحا شديدا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه (طرفه الذي يضرب به) بين ثدييه ثم تحامل على نفسه فقتل نفسه .. فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحا شديدا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه..فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة، وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار، وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها).
قال الطيبي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (أما إنه من أهل النار) أي: القول ما قلت، وإن ظهر لك خلافه". وقال النووي: "(فقال رجل من القوم أنا صاحبه) أي: أنا أصحبه في خفية، وألازمه لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار، فإن فعله في الظاهر جميل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار فلا بد له من سبب عجيب".

لقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على رجل ـأعجب أصحابه بقتاله وشجاعته ـ أنه من أهل النار، وقد تحققت علامات ذلك عيانا للصحابة، وهذا من معجزاته ودلائل نبوته التي أيده الله عز وجل بها، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم مدعيا النبوة، لما أخبر عن أمر مستقبلي غيبي، لا يعرفه أحد من البشر، ولم يطالبه به أحد، فالموت وما يتعلق به من مكان وزمان وكيفية علم اختص الله عز وجل به، كما قال الله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} (لقمان:34)، ومن ثم فما ورد وثبت من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره بكيفية موت بعض أصحابه وأعدائه وتحقق كما أخبر به ـ كما حدث في غزوة بدر وخيبر وغيرهماـ فبوحي من الله تعالى؛ للدلالة على نبوته، وأنه رسول من عند الله، لا ينطق عن الهوى، كما قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} (النجم:3-4)، ولذا قال الصحابي حين رأى قتل هذا الرجل لنفسه: (أشهد أنك لرسول الله) وهو كان قد شهد قبل ذلك. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين يرى صدق ما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية وقعت كما أخبر بها يقول: (أشهد أنك رسول الله)، وشواهد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أمور الغيب - التي أطلعه الله عليها - أكثر من أن تحصى، قال الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} (الجن:26-27)، ولذا كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول:
          نبي يرى ما لا يرى الناس حوله         ويتلو كتاب الله في كل مشهد
          
فإن قال في يوم مقالة غائب          فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد

وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يقول:
          وفينا رسول الله يتلو كتابه        إذا انشق معروف من الصبح ساطع
           أرانا الهدى بعد العمى                فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع

تعلمنا السيرة النبوية الشريفة أن الناس في خواتيم حياتهم وأعمالهم بين عبد يختم له بخير، وآخر يختم له بشر، فعلى المسلم أن يدعو الله دائما بحسن الخاتمة، ويعمل بالأسباب التي توصل إليها، وأن يستعيذ بالله دائما من سوء الخاتمة، ويبتعد عن جميع الأسباب التي تؤدي لها...وألا يعجب بعمله ولا يركن له، أو يعتقد أن عمله سيدخله الجنة، وينجيه من النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحدا منكم عمله) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة) رواه البخاري. فمن وفقه الله لحسن الخاتمة فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، ومن ختم له بسوء خاتمة فقد خسر في دنياه وأخراه.. فاللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة