علَّمَني التواضع!

0 802

في قلوب الكثير منا فرعون صغير؛ يصيح كلما واتته فرصة: {أنا ربكم الأعلى} (24:النازعات)..
ويحتاج إلى موسى ليهتف به: {هل لك إلى أن تزكى  وأهديك إلى ربك فتخشى}(18،19:النازعات).
موسى وكل الأنبياء بعثوا لقمع الأنانية الطاغية، ومساندة التواضع لله، وكانت رسالتهم العبادة لله وحده، لا تشركوا معه إلها آخر من أنفسكم، ولا من ناسكم، ولا من أحجاركم أو أشجاركم!
ولذا كان السجود قمة التواضع وهو ذروة العبادة.

ولذا عزف موسى عن أبهة القصر، وعاهد الله على البعد عنها: {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين} (17:القصص).
وقرر أن يقف مع الضعيف المغلوب في المشاجرات التي حكاها الله عنه، ليحارب عنصرية الفراعنة ضد بني إسرائيل المستضعفين.
وأدرك بفطرته طبيعة مجتمع ذكوري لا يلتفت لمعاناة امرأة ضعيفة فوقف في صف الفتاتين، وسقى لهما غير آبه بالعيون التي ترمقه باستغراب وتشكك..
ورضي أن يظل عشر سنوات يرعى الغنم كمهر للزوجية، و" السكينة والوقار في أهل الغنم " (البخاري)، وما من نبي إلا رعى الغنم، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- يرعاها لأهل مكة على قراريط ..
صحبة الغنم تورث التواضع والسكون والهدوء، وتصنع رابطة غريبة من الإلف والتعارف.. نعم التعارف!
ولذا ظل موسى وهو يناجي ربه يفسر وجود العصا معه بأنه يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، فيضرب الشجر حتى يتساقط ورقها فتأكله غنمه.
والاتكاء على العصا لأنه كان يكثر المشي على قدميه في البرية؛ هاربا من الظلم، أو باحثا عن الأمن، أو عائدا إلى أمه وأسرته، أو راعيا لغنمه.. وهي تربية على التواضع.

المرة الوحيدة التي أثر أن موسى قال فيها (أنا)، هي حينما سأله رجل وهو على المنبر: من أعلم أهل الأرض؟ قال: أنا!
وهذه الـ(أنا) لم تكن من شأن موسى؛ لأنه لا يجزم بذلك، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فيقول: لا أدري، أو الله أعلم.
فأوحى الله إليه: أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك.. وهو الخضر.
موسى كان أفضل منه، فهو رسول من أولي العزم، والخضر نبي عنده علم من عند الله لم يطلع عليه موسى في مسائل مفردة، وكأنها أمثال ضربت لموسى، وفي طياتها إشارة لسرعته في الجواب عن سؤال: من أعلم الناس؟!
لم يصبر موسى على التعلم من الخضر كما وعد، فعاتبه على خرق السفينة؛ خيفة أن يغرق أهلها، وكأن هذا تذكير له بإلقائه في اليم وهو رضيع؛ لا ليغرق، ولكن ليسلم بإرادة الله وتدبيره من بطش الطاغية فرعون، ولذلك عد هذا نسيانا منه..

على أن موسى قاوم طغيان فرعون حتى انتصر عليه، والخضر اكتفى بحماية السفينة والحفاظ على مال المساكين، وبهذا يتبين الفرق العظيم بينهما!
ولم يصبر موسى على قتل الغلام الفاسد فأنكر على الخضر قتله، وكأن هذا تنبيه على أن قتل فرعون لأولاد بني إسرائيل وإن كان جرما إلا أنه قدر إلهي له أسراره وأبعاده التي لا يحيط بها إلا من آتاه الله من لدنه علما..
أو أنه تنبيه لموسى على قتله للقبطي؛ الذي لم يؤمر بقتله، وأن من ورائه سرا إلهيا لا يعلمه موسى، ولعله لو عاش لأرهق من حوله طغيانا وكفرا أو كان عائقا عن دعوة الحق، وهذا يخفف من لوعة موسى من تلك الفعلة..
ولم يصبر على إقامة الجدار بغير أجرة لغلامين يتيمين من أهل قرية أبوا أن يضيفوهما، وكأن هذا نظير ما فعله موسى للفتاتين الضعيفتين في أرض مدين، حيث كان موسى غريبا طارئا لم يجد منهم الحفاوة، ولذا دعا ربه: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (24:القصص)..
وكان خاتمة اللقاء بينهما هو هذا الموقف الذي يختلف عن سابقيه بأن للنفس فيه بعض الحظ، ولذا قال الخضر: {هذا فراق بيني وبينك} (78:الكهف)!
في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " كأني أنظر إلى موسى -صلى الله عليه وسلم- واضعا إصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي " (رواه مسلم ).

ذل وانكسار وتعبد هو سر الفضل والسبق، ولذا كان موسى هو الرجل الثالث في الفضيلة الإنسانية بعد محمد وإبراهيم -عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام- على قول الأكثرين.
قتل موسى قبل النبوة رجلا ظالما من القبط؛ كان يريد تسخير بعض بني إسرائيل في مصالحه، ولكن لم يكن له في قتله حق، فظل الندم على هذا الفعل يلاحقه طيلة حياته مع أن الله غفر له، وحتى بعد موته لم ينس هذا الذنب، فإذا جاءه أهل الموقف يطلبون شفاعته إلى الله اعتذر وقال:" إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها "( الترمذي)
وأحدنا يفعل أمثال الجبال من الذنوب ثم ينساها أو لا يدري عنها أصلا؛ لأنها من الذنوب الخفية ..ذنوب القلوب!
ولكنه يحتفظ بذنوب الآخرين وكأنه رب يحاسبهم، ولذا قال عيسى: (لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)، رواه مالك بلاغا، والله أعلم
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة