واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام

0 1812

"خليل الرحمن" ذاك هو اللقب الخاص بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهي منزلة علية نالها دون غيره من الأنبياء والمرسلين، ولإبراهيم عليه السلام وصف آخر مذكور في القرآن، وهو وصف الحنيفية، أي الميل عن الشرك.

وقصة نبي الله إبراهيم عليه السلام في مناظرة قومه إثباتا للوحدانية وإبطالا للوثنية والمسالك الشركية معروفة، وأحداثها مسطورة في سورة الأنعام، إلا أن ما يلفت انتباهنا في قصته عليه السلام في هذا الموضع، دعاؤه على أعتاب البيت الحرام: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (إبراهيم:35).

إن الداعي بهذا الدعاء هو نفسه الذي عاتب أباه "آزر" من قبل قائلا له: {أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين} (الأنعام:74)، {إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} (مريم:42)، وهو الذي شهد الله له بالرشد والنجابة منذ نعومة أظفاره، ليدرك ضلال قومه وعدم معقولية ما يفعلونه: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} (الأنبياء:51-52)، {قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} (الأنبياء-66-67)، {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} (العنكبوت:16-17)، فصاحب الحجج العقلية النجيبة عليه الصلاة والسلام، يدعو ربه أن يجنبه ويجنب بنيه من بعده عبادة الأصنام، فما دلالة ذلك؟

إن الدرس الذي نستفيده هنا، وينبغي التأكيد عليه مرارا وتكرارا، أن الكفر والإيمان ليسا عملية عقلية محضة، بحيث تكون إقامة البراهين العقلية على التوحيد وبطلان الشرك ضامنة لصاحبها أن يبقى على هذه الهداية حتى مماته، بل إن مسألة الهداية والثبات لها طرف خفي غيبي ليس بيد الناس، وإنما هو بيد الله تعالى، ولذلك فإننا نستديم طلب الهداية والثبات على الحق يوميا في صلواتنا وفي كل ركعة منها إذ ندعوا: {إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:5-6)، فلا بد من الاستعانة الدائمة بالله جل وعلا؛ كي نبقى على طريق الحق، ولا بد من الإلحاح الدائم أن يلهمنا العزيمة على الرشد، والثبات على الحق.

قال إبراهيم بن يزيد التيمي، تعليقا على دعوة الخليل عليه السلام: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ ويتهاون بكلمة التوحيد، ويعيب على من اجتهد في تعلمها إلا من هو أكبر الناس شركا، وأجهلهم بلا إله إلا الله".

دعونا ننظر نظرة تجرد للواقع التاريخي بعد الخليل عليه السلام، إن الذي خافه الخليل عليه السلام على نفسه وبنيه وسأل الله السلامة منه، صار واقعا كرسته الأيام من أقوام يشهدون ألا إله إلا الله، وينكرون عبادة الأصنام، ثم هم يقعون فيما يحذرون، فبعد القرون المفضلة ومع قلة العلم وانتشار الجهل، وقع الكثير من أمة التوحيد في ألوان من الشرك تسللت إليهم، ومظاهر ذلك لا تخفى من بناء المساجد والمشاهد على القبور، والذبح لها والاستغاثة بأصحابها من الأولياء وأصحاب الكرامات، وصرف العبادات بأنواعها لها، وتفريغ سدنة وخدام تقوم بشأنها كما كان عليه الأمر في الجاهلية، فهذا من الشرك الذي خاف منه الخليل عليه السلام، وإن اختلفت الصور والقوالب والأسماء، وليس شرطا أن تكون الأصنام لاتا وعزى، بل كل ما صرف فيه نوع من العبادة صار صنما أو وثنا، فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم.

قالت أم سلمة رضي الله عنها: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللهم يا مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك) قالت: يا رسول الله: أو إن القلوب لتتقلب قال: (نعم، ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه) رواه أحمد.

قد قالها إبليس منذ إعلانه عن لحظة المعركة الكبرى مع الجنس البشري: {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} (الأعراف:16-17) فأعظم أمانيه إيقاع الناس في الشرك، الذي لا يغفره الله، ولا يقبل من صاحبه صرفا ولا عدلا، فكانت هذه القضية على سلم أولوياته، ومقدم اهتماماته، وجند جنوده لهذا المقصد مستعينين بما لهم من فصاحة وتزيين وشبهات.

كل ذلك يدعونا إلى أن نكون أكثر تعلقا بالله جل وعلا واستعانة به، وألا نغتر بأنفسنا مهما آتانا الله من العلم والفهم حتى لا نهلك، والله الموفق. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة