بين يدي اللغويّات الحديثيّة

0 1205

اتفق أهل اللغة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا، وأوضحهم بيانا، وأعذبهم نطقا، وأعرفهم بمواقع الخطاب، واختصر له الكلام اختصارا، وكان يخاطب العرب بلهجاتهم، وكانت العرب قاطبة تفهم أكثر ما يقوله.

فلم يكن احتضان حليمة للرسول صلى الله عليه وسلم ورضاعتها له من قبيل الصدفة، وإنما بترتيب إلهي لا يعلمه أحد من البشر.. فقد أراد الله أن يرتوي نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام من فصاحة "بني سعد" - وهم أفصح العرب - وهو في المهد صبيا ليكون أهلا للقرآن والوحي.

وتعد فصاحة النبي عليه الصلاة والسلام من أبرز مظاهر عظمته، وأوضح دلائل نبوته، فهو صلى الله عليه وسلم صاحب اللسان المبين، والمنطق المستقيم، والحكمة البالغة، والكلمة الصادقة، والمعجزة الخالدة.

وقد زكى الله تعالى نطقه، فقال عز وجل: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} (النجم:3-4)، وقال سبحانه: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} (الشعراء: 193-195).

وقد تميز أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه، وكلماته، ومواعظه، بسهولة اللفظ، وبلاغة المعنى، فكانت ألفاظه سهلة سلسة، وكان يترك دائما الألفاظ المهجورة والغريبة في اللغة؛ ليفهم كلامه كل سامع، وليحفظ من كان في حفظه صعوبة، ولهذا كان كلامه يجري مضرب الأمثال بين العرب؛ لما حوى من تلك المعاني الكبيرة، في كلمات معجزات قليلة.

وتصف زوجه عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما حديثه بالإيجاز؛ فتقول: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه" متفق عليه.

وكان عليه الصلاة والسلام يتحدث بأسلوب يجعل مقاله في غاية الإفصاح والإبانة، ولا يعيق المستمع عن أن يفهم الكلام ويعيه بشكل جيد، ومن ذلك: أنه كان يكرر الكلمة ثلاثا، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "كان إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا" أخرجه البخاري.

ومنها: أنه لم يكن يسترسل في حديثه بطريقة تعيق المستمع عن وعي ما يسمع، بل كان يترسل، كما تصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حديثه بقولها: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم" متفق عليه.

وعلى الرغم من كون النبي عليه الصلاة والسلام أبلغ العرب وأفصحهم، ورغم صفاء روحه وتوقد ذهنه، فإنه لم يكتب يوما بيتا واحدا من الشعر من نظمه، قال تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} (يس: 69)، وما ذاك كي لا يقول قائل في يوم من الأيام: إن القرآن إنما هو نوع من أنواع الشعر الذي كان يقوله محمد، أو يحفظه، أو نموذج جديد منه.

قال الإمام الخطابي رحمه الله في (غريب الحديث): "إن الله جل وعز لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ليباشر في لباسه مشاهد التبليغ، وينبذ القول بأوكد البيان والتعريف، ثم أمده الله بجوامع الكلم التي جعلها ردءا لنبوته، وعلما لرسالته لينتظم في القليل منها علم الكثير؛ فيسهل على السامعين حفظه، ولا يؤودهم حمله، ومن تتبع الجوامع من كلامه لم يعدم بيانها"، وقال في موضع آخر: "ومن فصاحته أنه تكلم بألفاظ اقتضبها، لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها".

وقال الإمام السيوطي رحمه الله في (المزهر): "أفصح الخلق على الإطلاق: سيدنا، ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبيب رب العالمين جل وعلا".

وقد ذهب كثير من المحققين إلى أن للحديث الشريف مدخلا في الاستشهاد للقواعد النحوية، وهو مذهب أبي محمد ابن مالك، وابن هشام، وغيرهما من أكابر العلماء، قال أبو الحسن بن الضائع: "ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث، لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أفصح العرب".

وسنورد في هذا المحور مباحث لغوية حديثية تثري هذا الجانب من علوم الحديث، كما سنعرض نماذج من فصاحته صلى الله عليه وسلم، وكيف أفاد الدرس اللغوي منها، نسأل الله الإعانة والتوفيق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة