حقيقة الشرك الخفي

0 1711

تصفو المرآة من عوالق الأتربة فتشتد وضوح الصورة المنعكسة على سطحها، وتتراكم الأتربة على أخرى فلا يكون لها ما لأختها من النصاعة والصفاء، كذاك أمر الإيمان والشرك في قلب المؤمن: ينقى قلبه من شوائب الشرك كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، أو أن تشوبه شائبة وتنازعه داخلة من دواخله، وذلك ما يحدد مصير صاحبها يوم القيامة: بين الهداية الكاملة في الدنيا، والأمن التام يوم القيامة، وما هو دون ذلك: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام:82).

وإذا كان العمل لا يقبل إلا بإخلاصه وموافقته للشرع، وإذا كان المؤمن حريص على التخلص من جميع أبواب الشرك وأنواعه، وإذا كان بعض الشرك ظاهرا جليا لا يخفى أمره، وآخر مستتر قد يخفى حكمه أو يصعب تمييزه أو يكون ارتباطه بالقلب أشد من المظاهر والطقوس، كان لزاما على المؤمن الذي يرجوا لقاء ربه آمنا مطمئنا أن يستجلي حال الشرك الذي قد يكون خافيا، وهو ما اصطلح عليه بالشرك الخفي.

وهذه التسمية أصيلة في السنة النبوية، والنبي –صلى الله عليه وسلم- هو من نبه عليها وأطلق عليها هذا الاسم، ووصفها بهذا الوصف –الخفاء-، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال: (أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل) رواه أحمد وغيره، ودبيب النمل هو صوت مشيها وسيرها على الأرض، في تشبيه بليغ ممن أوتي جوامع الكلم بيانا لشدة خفائه.

وإذا كانت فتنة المسيح الدجال هي أعظم فتنة تشهدها البشرية من لدن آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن خوف النبي –صلى الله عليه وسلم- من خفاء الشرك على أمته أكبر، ففي الحديث الذي رواه أحمد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفي).

إذن، فثمة لون من ألوان الشرك، جاءت تسميته في حديث –الشرك الخفي-، وتوصيفه في نص آخر –أخفى من دبيب النملة-، وهذا الشرك لا يمكن أن يوصف بالظهور والوضوح والجلاء.

ولعل المنزع الذي جعل لهذا اللون من الشرك صفة الخفاء والاستتار أمران، الأول: تعلقه بالقلب فلا يطلع عليه إلا الله، وليس له مظاهر عبادية ظاهرة كالطواف حول القبور والنذر والذبح والاستغاثة وغيرها من العبادات التي تصرف عادة لغير الله تعالى، والثاني: كثرة الاشتباه فيه، لخفاء مأخذه، ودقة أمره، وشدة التباسه.

وقد اختلفت أقوال العلماء في بيان حقيقة الشرك الخفي وتعريفه، فمنهم من قال: هو كل ما نهى عنه الشرع من أعمال القلوب ومقاصدها، مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه. وهذا التعريف وإن كان يشمل معظم الصور المذكورة في السنة مما جاء وصفه بالشرك الخفي، إلا أنه قاصر عن استيعاب بعض صور الشرك الأكبر، كالنفاق.

ومما قيل في الشرك الخفي: ما خفي من حقائق إرادات القلوب وأقوال اللسان، مما فيه تسوية بين الله تعالى وخلقه. وهذا التعريف أشمل ما سابقه من حيث توسعة المفهوم ليشمل أقوال اللسان التي قد يفهم منها الإشراك والتسوية، إلا أنها تظل محصورة في صور الشرك الأصغر فحسب.

ومن التعريفات المذكورة كذلك، أن الشرك الخفي هو كل ما تردد بين أن يكون من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر. وكأن المقصود بهذا التعريف تلك العبادات التي قد تصبح شركا أصغر أو أكبر بحسب نية صاحبه، وقد ركز هذا التعريف على جانب الالتباس والاشتباه، وهو أحد وجوه الخفاء.

والحق أن الشرك الخفي قد يكون شركا أكبر: كالنفاق؛ والذي هو من عقائد القلوب المصادمة لأصل التوحيد، وحال المنافق قد يخفى على الناس أمره، وكم من رجل ظن الناس به خيرا وهو عند الله كفار أثيم.

وقد يكون الشرك الخفي شركا أصغر كالرياء، وهو ما نص عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) ويسير الرياء لا يخرج به الإنسان من الإسلام كما هو معلوم.

ومن الشرك الأصغر الذي لا يكون فيه صرف عبادة لغير الله، وليس فيه إرادة خفية لغيره سبحانه، بعض الأقوال التي ليس فيها كمال الأدب مع الله تعالى، تحقيقا للتوحيد، وسدا لذرائع الشرك؛ لما فيها من التشريك في اللفظ، كقول أحدهم: أعطاني الله وفلان، ولولا فلان قتلني فلان، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو يعلى في مسنده. أو قول الرجل: هذا عبدي وهذه أمتي، وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي).

ولم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- ليترك القضية عند حدود التخويف من الشرك الخفي، خصوصا مع خفائه، دون أن يبين لهم كيف يتقونه أو يتعاملون معه، فكما جاء في مسند أحمد مرفوعا: (قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم) فصلى الله على معلم الناس الخير، ومحذرهم عن كل ما فيه نقص في الدين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة