نحن المتوكلون!

0 1932

كم من الأخطاء ترتكب عن حسن نية؟ وكم من التصورات الخاطئة تقوم في الأذهان فتصادم الحقائق الشرعية بسبب الجهل بالدين؟ وكم تكشف الأيام وجود قصور في الفهم عند المدعوين، نتج عنه الخلل في العمل.

هذا ما يمكن أن يقال في فاتحة الحديث عن موقف مذكور في كتب السنة يجسد صورة من صور الجهل بالشريعة وإن لم يكن مقصودا من صاحبه.

لقد كان الداعية الأول لأهل اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو المعروف بين الصحابة في سعة علمه وقوة فهمه وقدرته على التعليم والإرشاد، وكان مما علمهم إياه: الحج إلى البيت العتيق، فما كان منهم إلا أن يمموا وجوههم شطر المسجد الحرام، فحجوا كما حج غيرهم، إلا أنه قد صدر منهم ما يدل على وجود خلل لديهم في فهم إحدى العبادات القلبية، فما هو ذلك الخلل؟

روى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: " كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة: 197) رواه البخاري.

ويبدو أن هذا الفهم الخاطيء قد استمر في أهل هذه الناحية حتى زمان الخليفة عمر رضي الله هنه، فقد ذكر الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"، عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي ناسا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. فقال: "بل أنتم المتكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض، ويتوكل على الله".

لقد أدرك هؤلاء القوم جزءا من معنى التوكل، وهو: الاعتماد على الله سبحانه وتعالى اعتمادا صادقا في مصالح الدين والدنيا، وتفويض جميع الأمور إليه والاستعانة به، كما قال سبحانه وتعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة:51)، وقال سبحانه: {وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} (هود:123)، وغيرها من الآيات، وأما الجزء الذي أغفلوه ولم يدركوا أهميته: فهو ضرورة فعل الأسباب المأذون فيها شرعا، وأن إتيان هذه الأسباب ومباشرتها هو جزء أصيل من مفهوم التوكل لا يصح إلا به.

ذلك أن الله سبحانه وتعالى حين خلق هذا الكون، وضع له سننا تنظم سيره، وهي سنن كونية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ومن بينها: الربط بين الأسباب ومسبباتها، فقد جعل الله لكل شيء سببا، فلا ولد من غير زواج، ولا حصاد من غير بذر وزراعة، ولا نجاح من غير جد واجتهاد ومثابرة.

وإذا كان الله تعالى قد ربط بين الأخذ بالأسباب وحصول رغبات الإنسان وأمانيه، فيكون إلغاء الأسباب طعنا مباشرا في حكمة الله تعالى؛ لأن حكمته سبحانه وتعالى اقتضت وجود هذا الربط بالأسباب، فالأخذ بالأسباب المأذون بها ضرورة شرعية، وحكمة كونية، فالتوكل إذن: اعتماد على الله، وأخذ بالأسباب، فهذا هو التوكل الذي أمرنا الله به، وما سواه فهو اتكال وتواكل.

وانطلاقا مما سبق، وضع علماء العقيدة قاعدة مهمة ينبغي لمن أراد أن يحقق التوكل، وهي: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع".

تلك هي الحقيقة التي لم يستوعبها أولئك الحجاج، إذ ظنوا أن تحقيق التوكل على الله وصدق الاعتماد عليه يقتضي أن يعرضوا عن الأخذ بالأسباب باعتبار أنها نوع التفات نحو أمور دنيوية تتنافى وتتصادم مع الثقة بمن بيده الأمر كله، وهذا غير صحيح، كما قال الحافظ ابن رجب: "واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به".

إذن فالسماء لا تمطر ذهبا كما يقال، فلابد من السعي في الأرض وبذل الأسباب المشروعة ولكن مع دوام اتصال القلب بالله تعالى، وهذا هو ما سعى عمر رضي الله عنه إلى بيانه وتوضيحه لأولئك الحجاج حينما عبروا عن أنفسهم بالمتوكلين، فقد قال لهم: "إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض، ويتوكل على الله" فكل ما يؤدي إلى ترك العمل فليس من التوكل في شيء.

إن التوكل الحقيقي لا يكون على تمامه ولا يستوي على سوقه إلا بالأخذ بالأسباب، وهذا ما استفاضت به آيات القرآن في الدعوة إليه وتأصيله، ومن ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} (النساء: 71)، وقال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} (الأنفال: 60)، وقال سبحانه: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } (الملك: 15).

وإن سيد المتوكلين هو محمد –صلى الله عليه وسلم- ولقد كان يأخذ الزاد في السفر، ويوم الهجرة اختفى في الغار كي يتخفى عن عيون أعدائه، ولما خرج من الغار إلى المدينة أخذ من يدله الطريق، ويوم أحد لبس درعين اثنين، ولم يستند على توكله فحسب، وعندما دخل عليه الصلاة والسلام مكة فاتحا، كان يلبس البيضة على رأسه –وهي خوذة الرأس- بالرغم من عصمة الله له ودفاعه عنه: {والله يعصمك من الناس} (المائدة:67).

قال سهل: "من قال: التوكل يكون بترك العمل، فقد طعن في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

والحاصل أن التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه. فمن أنكر الأسباب لم يستقم معه التوكل، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة