الحداثة وما بعد الحداثة

0 698

إبان عصر النهضة الأوروبية المعاصرة نشأت "الحداثة" على تجاوز جميع الثوابت، بما في ذلك الثوابت الدينية والعقدية والروحية، وراح المجتمع الغربي الحديث يتشكل - منذ القرن الخامس عشر الميلادي - على أسس فلسفية وفكرية، وتراجع الفكر الكنسي إلى مرتبة تلي العقل والتجربة؛ لذلك وجد منهجان في الفكر، المنهج التجريبي الذي جاء به (بيكن) والمنهج العقلي لـ (ديكارت).
يقول أحد مبشري وكهنة الحداثة: "إن الحديث عن الحداثة هو حديث عن التجديد والتمرد والقطيعة مع الماضي من أجل إيجاد حاضر ومستقبل أفضل، ذي ملامح جديدة ونظريات جديدة قادرة على حمل الإنسان إلى آفاق أكثر رحابة، الحديث عن الحديث هو حديث عن الجدة والتغيير".
ويقول آخر: "جاءت كدين جديد (مجازا) في الغرب، دين عالمي للبشرية جمعاء لا تحدها بيئات ولا ظروف معينة فهي صالحة لكل ما هو بشري".
وكاهن ثالث: "هناك ميل -لا راد له- إلى توحيد الوعي وتوحيد القيم وتوحيد طرائق السلوك وأنماط الإنتاج والاستهلاك، أي إلى قيام مجتمع إنساني واحد".
والحداثة وصف هلامي فشل منظروها في تحديد تعريف محدد لها، أو رسم هوية واضحة تجمعها، لأنها حداثات كثيرة لا حداثة واحدة، ما يفرقها أكثر مما يجمعها، فالحداثة على حد قول (ريموند وليمز): "هي حركة قلقة لا يقر لها قرار".

الجذور التاريخية:
لقد أدرك (بيكن) أن هناك عيبا في طريقة التفكير عند الفلاسفة اليونان القدامى ورجالات العصور الوسطى الذين خلطوا العلم بالفلسفة، فجاءت كثير من نظرياتهم نظريات لا تتعدى الخرافات بشكل من الأشكال، حيث ذكر أن (أرسطو) اعتقد أن للنساء عددا أقل من الأسنان، ولكنه -أي (أرسطو)- وعلى الرغم أنه تزوج من امرأتين لم يكلف نفسه مرة أن يقوم بفحص فم أي من زوجتيه ليتحقق من صحة هذا الرأي المزعوم، ما يبرز التحول الفكري الذي جنح إلى العقل والتجريب، وبهذا تحول الوعي الأوربي ليدخل إلى مرحلة جديدة إبان عصر النهضة هي مرحلة التنوير كما يقول (كانط) والذي يعني به: "خروج الإنسان من مرحلة القاصر التي تتمثل بالعجز عن استخدام العقل بسبب فقدان العزيمة القوية والشجاعة لتوجيه نفسه بنفسه .. ومن هنا فإن التنوير يطالب الإنسان بأن تكون له العزيمة الكافية لاستخدام عقله بنفسه".

سلبيات الفكر الحداثي:
دفعت موجة الإنجازات العلمية الهائلة بالإنسان الغربي إلى الغرور بذاته، فبدأ يبتعد عن الله تعالى، وعن القيم الروحية والخلقية، حتى وصل الأمر في غالب الأحيان إلى إنكار وجود الله عز وجل بسبب الفلسفة المادية التي لا تؤمن إلا بما يرى، وراح الفيلسوف الألماني (نيتشه) - أحد كبار فلاسفة الحداثة - يعلن - والعياذ بالله - فلسفته عن موت الإله!!.
كما تم تنحية الشرائع الدينية عن مجالات الحياة المختلفة، وحصر دورهما في دور العبادة فقط، فلا علاقة للدين بأي نشاط من أنشطة الحياة، حيث تحول الإنسان من مستقبل لتشريع الله وأحكامه، ومطبق لها، إلى واضع لهذه التشريعات، وانتقل عندهم مركز الكون من الله إلى الإنسان!!.
لقد مثلت العلمانية للحداثيين روح الحداثة وأهم آفاقها والقاسم المشترك بين عناوينها، إذا لا يمكن بدونها تصور وجود ثقافة حديثة، وقيام أنظمة سياسية حديثة، قادرة على تحقيق التنمية والتطور. والعلمانية -كما يراها منظروها- يشتد الاحتياج إليها كلما تطور الإنسان حيث يقل احتياجه للدين!

كوارث الحداثة:
صار دين الحداثة "الغاية تبرر الوسيلة" .. ذاك المبدأ الميكافللي الشهير، الذي قلص من حيوية القيم وحاجة النفس البشرية لها.
ورغم أن التطور العلمي المعاصر أفاد وأجاد، إلا أنه في ظل غياب المنظومة الأخلاقية باتت الأسلحة أشد فتكا، والضحايا أكثر عددا، ووصلت معدلات الجريمة إلى مستويات كارثية، وصارت السياسة لا تفهم إلا المصلحة، وبات المحتل يستنزف ثروات الضعاف.
يقول الفرنسي (مارشال بيرمان) عما سماه الحداثة وتحولات القيم: "حين يقول ماركس: إن سائر القيم تحولت إلى مجرد قيمة تبادلية. إنما يعني أن المجتمع البرجوازي لا يمحو بناء قيمية قديمة من الوجود، بل يصنفها .. إن الأنماط القديمة من الشرف والكرامة لا تموت، بل يجري إدماجها بالسوق، وتحمل لصاقات عليها أسعارها، كما تكتسب حياة جديدة بوصفها سلعا، وهكذا فإن أي نمط يمكن تخيله من السلوك الإنساني يغدو مسموحا به أخلاقيا لحظة صيرورته ممكنا اقتصاديا، لحظة صيرورته ثمينا، فكل ما هو مربح مجاز، ذلك هو المحور الذي تدور حوله النزعة العدمية الحديثة".

وقال الروائي الإنكليزي (سنو) في روايته "الرجال الجدد" التي نشرت سنة 1954م: "بصراحة لا تعرف الرحمة، كيف أن بدايات الثورة التكنولوجية عقب الحرب العالمية الثانية كشفت للمثقفين الغربيين الحقيقة التي لا يرقى إليها شك، وهي أن إنجازات الفكر والإبداع الإنساني تحولت حتما ضد الإنسان ذاته في المجتمع الرأسمالي، وارتبطت أول مرحلة للثورة التكنولوجية بظهور القنبلة الذرية، وتطبيق الاكتشافات العلمية الجديدة لخدمة الاحتياجات العسكرية".
وتناول(سنو) في الرواية المذكورة عنف محنة الضمير على بعض العلماء الإنكليز، الذين شاركوا في تطوير القنبلة الذرية التي خبروها عندما عرفت نتائج إسقاط القنابل على هيروشيما.
"ما بعد الحداثة" أو "الحداثة القيمية المعيارية"، ويمكن تسميتها بـ "الحداثة العصرية" .. تسعى إلى التخلص من الفكر المادي الإلحادي، وإلى إحياء القيم التي يؤمن بها رائدوها (القيم النصرانية واليهودية) وإلى بعث التقاليد وتقويمها عوضا عن نبذها، وإلى الموازنة بين العلم والدين، وإلى احترام الطبيعة.
إنها محاولة يائسة لترميم ثقوب الحداثة التي جرت على الأمم الخراب والدمار وتسليع القيم، لذلك يقول أحد منظري الحداثة المتطرفين: "النزعة العقلية الكبيرة للحداثة، هي النزعة الأبرز والملمح الأصفى، في تاريخ الحداثة، فالفكر والعقل في زمن الحداثة قد حلا بديلين عن الأسطورة والدين، والحقيقة العلمية حلت محل الحقيقة الدينية، فالعقلانية هي السمة الرئيسة للحداثة، أما اللاعقلانية فهي السمة الرئيسة لما بعد الحداثة".

عقلاء وحكماء

إن التحديث –بتعبير (مالك بن نبي) رحمه الله- للحضارة ليس سلعة يمكن استيرادها في صناديق أو بين دفتي كتاب، ونقلها من مكان إلى آخر، وليست إحدى لوحات الرسم التي ننقلها من مسمار الجدار الذي علقت عليه إلى مكان آخر، أي مشروع تحديثي لا يحترم دين وثقافة الأمة، مشروع آيل -لا محالة- إلى الفشل الذريع، مهما وظفت له من طاقات وأموال.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة