- اسم الكاتب:أبو عبد الرحمن الإدريسي-إسلام ويب
- التصنيف:المقالات
من أبرز الآليات التي يستعملها علماء مقارنة الأديان والمذاهب في امتحانهم لدرجة تحريفات بعض الأديان، والاستشهاد على بطلان عدد من المذاهب الفكرية إخضاعها لامتحان يكون عبارة عن مقارنة للمذهب الفلاني مع الفطرة البشرية السوية comparaison de la doctrine avec l'instinct، والتي ترتكز على القيم المشتركة التي يقول بها علماء النفس من خلال دراستهم للمجتمعات الإنسانية والأنفس البشرية ومدى تلبية تلك المعتقدات والمذاهب لها وموافقتها إياها.
وهو ما سنقوم به باختصار مع المذهب الإلحادي لكي نبين لك أيها الشاك والملحد مدى بطلان ما تعتقد به، وتهافت ما تقول به، عسى أن نضع أصبعنا على مكمن الداء ومركز الجرح الذي يقذف بك في غياهب الحيرة القاتلة والعدمية الحزينة !
وينبغي قبلا أن نذكر بأن المذهب الإلحادي بالرغم من أنه لا يقول بأخلاق ولا خير ولا شر ويعتبرها مجرد تواضعات بشرية، إلا أنه اضطر للقول ببعضها واقتباس بعض القيم التي تقول بها الأديان من أجل التخفيف من معاناة الملاحدة ومحاولة الاندماج مع مجتمعاتهم ولو بشكل طفيف يحقق أدنى توافق، لأن الإلحاد بالرغم مما وصل إليه العالم من تقنية ووسائل علمية لا زال يعتبر مقارنة مع مليارات البشر في كل أنحاء العالم مجرد مذهب يعتقده أقلية داخل أغلبية، ومن هنا سبب ظهور مذهب الإلحاد الروحي athéisme spirituel، حيث أراده منظروه مذهبا يحل إشكاليات الفطرة ويعوض السكينة التي يحققها الدين ! لكن هيهات هيهات فقد أبان عن عجزه في تحقيق ولو بعض من ذلك.
1- فطرة تقول بوجود خالق للكون وإلحاد يقول بعدم وجوده ! : وهنا أول وأكبر تناقض بين الفطرة الإنسانية والإلحاد، فالإنسان بطبيعته كائن ملاحظ مفكر يعتمد مجموعة من التسلسلات المنطقية لكي يصل إلى نتائج سليمة وقناعات أكيدة، فهو في كل يوم يبصر مجموعة من الاختراعات والأدوات يستعملها في حياته اليومية، وتستقر في نفسه أن هاته الآلات والوسائل كلها يستحيل أن تأتي صدفة من دون مخترع صمم صنع وقدر، لكن هاته القاعدة لا يرتقي بها صعودا لكي يفكر في أن وجوده ككائن محكم الخلق ومخلوقات حوله يستحيل أيضا أن تأتي صدفة بدون خالق لها ومدبر حكيم عالم ! فيقع أول تناقض بينه وبين فطرته فالأخيرة عندها قاعدة الخلق كدليل على وجود الخالق كمسلمة تبدأ من هذا الأصل إلى غاية وصولها إلى تلك المخترعات التي تشاهدها ويستعملها الإنسان في قضاء حاجاته اليومية ! ومن هنا يقع له كبت لهذا المنطق السهل المستقر، حيث يقول به في أشياء لا تضاهي خلقته والكون الشاسع من حوله والأكمل من وجهة نظر علماء البيولوجيا والفيزياء مقارنة مع هاتف أو تلفاز أو حتى سكين !
ثم تأتي قاعدة ثانية منطقية تقول بها فطرته، وهو أن لكل شيء مخلوق بداية ونهاية، والمخلوق هو المفتقر لغيره والذي لا يملك إيجاد نفسه بله من حوله ! فهو بنفسه ولد من بطن أمه ثم سيعيش ثم يشيخ فيموت ويبلى، ومن حوله مختلف الكائنات، بل حتى المخترعات لها عمر محدود ما أن تنقضي حتى تتوقف ! لكنه يناقض فطرته بالزعم مرة بأن الكون أزلي علما بأن أجزاءه فانية ولا يوجد اختلاف إلا في عمر أجزاءه، فالإنسان وهو جزء من الكون يعيش بمقدار ثمانين سنة في المتوسط، والحيوانات كل أقل من ذلك، والحشرات تحسب دورتها العمرية بالأيام والشهور، والنجوم بمئات السنين .. فمن كانت أجزاءه فانية فهو فان ! لكن لا حياة لمن تنادي .
2- فطرة متدينة وإلحاد يرفض التدين : وهذا من التناقضات الأساسية التي تسبب الشقاء للملحد، فهو في كل حين يبحث عن تلك السكينة التي يراها في أهل الدين لكنه لا يتوصل إليها نظرا لتشبثه بالإلحاد، فالإنسان مخلوق ضعيف في هاته الحياة القائمة على أساس الابتلاء، يطلب العون والمدد في أقل شيء يواجهه، فامتحان دراسي على سبيل المثال إن حار فيه الطالب لاستدار إلى زميل له يطلب عونه في سؤال أو اثنين ! فإن كان هذا في امتحان فما بالك عند فقد قريب أو مرض عضال، أو حادثة سير، أو فراق حبيب ؟ فالمتدين دوما ما يطلب المدد من خالقه لكي يرفع عنه البلاء والكرب، ويتسلح بالعبادات والقربات لكي يستلهم الصبر والسلوان ويستريح من كل الهموم والمشاكل ! لكن من سيدعوه الملحد ؟ والذي يعتقد في عدم وجود خالق جملة وتفصيلا ؟ بل من الملاحظات الملحوظة أن الملحد ما يلبث أن يعتقد في إله يدعوه حينما يشتد عليه بلاء ويعيش حالة فزع تهدد حياته ! فكم من ملحد آمن بعد أن نجا من حادثة، أو شفي من مرض، أو أعياه بلاء ! والفطرة دائما ما تحب قيم الخير والعدل وتهرب من قيم الشر والإدمان، ولذلك دائما ما تجد الملحد لا يرتاح إن قارف معصية أو كان مدمنا على شرب الكحوليات لما يعلمه لا شعوريا من تهلكة في كل تلك المحرمات ماليا ونفسيا وبدنيا، وما تسببه من أمراض وأسقام . لأن هناك دائما حد فاصل بين ما يعتقده وبين فطرته وإنما المعتقد الحق هو الذي يتماشى مع متطلبات الفطرة ويحقق تناغما بينها وبين الجانب الاعتقادي للإنسان !
3- فطرة تقول بالخير والشر وإلحاد ينفي التقسيم: وهذا ثالث تناقض بين الفطرة والإلحاد، فالفطرة دائما ما تصنف أفعالا معينة في خانة الخير وأخرى في خانة الشر، لكن الإلحاد لا يقول بهاته الثنائية مما يوقعه في التناقض، فالبشرية كلها متفقة على أفعال خيرة كالصدقة وإعانة محتاج، وكفالة يتيم، والكلمة الطيبة، والتعامل باللطف، ومراعاة مشاعر الآخرين، وتنفر من أعمال الظلم وسب فلان والاعتداء على علان، أو اغتصاب ... لكن الإلحاد لا يعترف بذلك بل عنده كل ذلك مجرد تواضعات فقد يكون الاغتصاب فعلا متقبلا في مجتمع ألف فعله، وهذا لعمري عين الحمق والجهل، فمبدأ الاعتياد لا يجعل فعلا ينتقل من خانة الشر إلى الخير، ولهذا جاء الدين لكي يفصل للناس ويبين لهم الأفعال التي ترضي الخالق والأفعال التي تغضبه، لينتشل البشرية من تلك التضاربات التي تعيشها كل يحلل ويحرم ويبرر ويمنع ! فمن هنا يقوم الملحد بسلسلة من السلوكات التي تتعارض مع فطرته فتقوم نفسه اللوامة بتوبيخه على هذا الفعل أو ذاك فيقع تناقض يسبب عدم رضا عن شخصية الفرد المعني وبالتالي يدخل الملحد إما في احتقار لذاته Le mépris de soi، أو في أنانية سلوكية comportements égoïstes، وكلاهما لهما نتائج وعواقب نفسية ومجتمعية !
فهذا جماع ثلاث تناقضات بين الفطرة والإلحاد، تعري لنا الأسباب الحقيقية التي يحسها الملحد طوال مسيرته الإلحادية، والتي تجعل بعضهم يدخل إلى المواقع الإسلامية يطلب المدد والعون ويحتقر حالته التي وصل إليها ! وفي الجزء الثاني من المقال سنستعرض حزمة جديدة من هاته التناقضات التي ترشح الإلحاد بأن يكون معتقد العدمية nihilisme بامتياز.