قاضيان في النَّار، وقاضٍ في الجنّة

0 1389

للقضاء أهميته في حضارة الشعوب وتقدمها، وطيب عيشها وسعادتها، وذلك أن القضاء ميزان العدل، وملاذ المظلوم، وبقدر ما يكون القضاء عادلا في مجتمع ما، فإن لذلك المجتمع نصيبه الموازي لذلك القدر من السعادة والاطمئنان، والعزة والكرامة، وبدون القضاء العادل يختل عقد المجتمع، وينخر فيه الفساد، ويفتح عليه باب الهلاك، وتختل فيه الكثير من المعاني والقيم.. ومن ثم فإقامة العدل بين الناس من أعظم مقاصد الدين، قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}(الحديد:25)،وقال تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان}(النحل:90). وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التأكيد على أهمية وقيمة ومنزلة العدل بين الناس، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا) رواه أحمد، وقال: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) رواه مسلم.

خطورة منصب القضاء:

القاضي: هو كل من حكم بين اثنين أو أكثر في قضية، صغرت القضية أم كبرت، وكلما تعدد أطراف القضية وما يترتب عليها من حكم كلما اشتدت مهمة القاضي، ومن ثم جل منصب القضاء وعظمت مسؤولية القاضي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين) رواه أبو داود وصححه الألباني.
والقضاة ثلاثة أصناف: عادل ـ ظالم ـ جاهل سواء أصاب أو أخطأ، فعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة) رواه الترمذي وصححه الألباني، وفي رواية أبي داود وصححها الألباني: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار).
قال المناوي: " فيه إنذار عظيم للقضاة التاركين للعدل"، وقال الصنعاني: "(القضاة) في الآخرة (ثلاثة: اثنان في النار) قدم أهل النار لأنهم الأكثر ولسلوك طريق الترقي، (وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة) قدمه بشرى لأنه أشرف الثلاثة وذلك لأنه علم وعمل، (ورجل قضى للناس على جهل) لا علم عنده ولو وافق قضاؤه الحق، (فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم) فهذا علم وما عمل. (فهو في النار)". وقال الشيرازي الحنفي المشهور بالمظهري: " قوله: "قضى للناس على جهل"، يعني: الذي ليس له علم فقضى، فهو آثم في القضاء سواء اتفق قضاؤه صوابا أو خطأ، لأن من ليس له علم لا يجوز أن يقبل القضاء، ولا يصح قضاؤه ولا فتواه".

فائدة:

سئل الشيخ ابن باز: كيف نوفق بين الحديثين التاليين: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه: (المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد). فقال: "ليس بينهما بحمد الله تعارض، بل المعنى واضح، فالحديث الأول فيمن قضى للناس على جهل ليس عنده علم لشرع الله يقضي به بين الناس فهو متوعد بالنار، لقوله على الله بغير علم، وهكذا الذي يعلم الحق ولكن يجور من أجل الهوى لمحبته لشخص أو لرشوة أو ما أشبه ذلك فيجور في الحكم فهذان في النار، لأن الأول ليس عنده علم يقضي به فهو جاهل فليس له القضاء، أما الثاني فقد تعمد الجور والظلم فهو في النار، أما الأول فقد عرف الحق وقضى به فهو في الجنة.
أما حديث الاجتهاد الذي رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه وما جاء في معناه وهو في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)، فهذا في العالم الذي يعرف الأحكام الشرعية وليس بجاهل، ولكن قد تخفى عليه بعض الأمور وتشتبه عليه بعض الأشياء فيجتهد ويتحرى الحق وينظر في الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ويتحرى الحكم الشرعي لكنه لم يصبه، فهذا له أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب وخطؤه مغفور، لأنه عالم عارف بالقضاء، ولكن في بعض المسائل قد يغلط بعد الاجتهاد والتحري والنية الصالحة، فهذا يعطى أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب".
وقال المناوي في "فيض القدير شرح الجامع الصغير": "قالوا: فما ذنب هذا الذي يجهل؟ قال: ذنبه أن لا يكون قاضيا حتى يعلم، قال الذهبي: فكل من قضى بغير علم ولا بينة من الله ورسوله على ما يقضي به فهو داخل في هذا الوعيد المفيد أن ذلك كبيرة".

العدل النبوي:

أول من تولى القضاء في المدينة المنورة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كتب في الوثيقة التي وضعها صلوات الله وسلامه عليه في بداية بنائه للدولة الإسلامية في المدينة: "وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله".. والعدل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته لا يتأثر بحب أو بغض، ولا يفرق بين حسب ونسب، ولا بين صديق وعدو، كما لا يميز بين مؤمن وكافر. وقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل منهجا له طيلة حياته، وامتلأت كتب السيرة النبوية بمواقف تبين شدة تمسكه وحرصه على العدل والحق ولو على نفسه وأهله.
في قصة المرأة المخزومية التي سرقت واستعان أهلها بأسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يشفع لهم عنده ليعفو عنها، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته، وكان العدل الذي لا يحابي في حكم من أحكام الله تعالى أحدا، ولو كان أحب الناس إليه فاطمة ابنته، فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: (ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري.

وفي غزوة حنين اعترض عليه بعض القوم وأخطأ في حقه أحد المنافقين، فلم يخرجه ذلك للغضب لنفسه أو الظلم، فعن جابر رضي الله عنه قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بالجعرانة ـ منصرفه من حنين ـ وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطى الناس، فقال: يا محمد! إعدل، قال صلى الله عليه وسلم: ويلك!، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) رواه البخاري. قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت: روي بفتح التاء في (خبت وخسرت) وبضمهما فيهما، ومعنى الضم ظاهر، وتقدير الفتح: خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل، لكونك تابعا ومقتديا بمن لا يعدل، والفتح أشهر. والله أعلم". وقال ابن القيم: "والصواب في هذا فتح التاء من (خبت وخسرت)، والمعنى أنك إذن خائب خاسر إن كنت تقتدي في دينك بمن لا يعدل وتجعل بينك وبين الله ثم تزعم أنه ظالم غير عادل، ومن رواه بضم التاء لم يفهم معناه هذا".

إقامة وتحقيق العدل سبيل لاستقرار المجتمع وسعادة أفراده، وبضده وهو الظلم تضطرب الحياة وتزول البركة، وبقدر ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل وحث عليه، وبين فضله ومنزلة من يحكم بين الناس بالعدل، فقد شدد على حرمة الظلم وخطره، وخطورة منصب القاضي، إذ للظلم والأحكام الجائرة عواقب سيئة على الأفراد والمجتمعات، قال الله تعالى: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}(الكهف:59). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}(هود:102) رواه مسلم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار). وقال ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام"،

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة