الغفلة حجاب!

0 1011

سألتني إحدى بناتي عن مقصودي بالغفلة التي تحجب عن الله، فتذكرت قول الله لنبيه -عليه السلام-: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (3:يوسف )، أي: قبل القرآن، فالغفلة إذن هي الإعراض عن القرآن كليا أو جزئيا..
القرآن ليس حروفا تتلى، ولكنه روح تسري في الأجساد، وتحيي القلوب، وتنعش الأرواح، والأموات يصبحون به أحياء؛ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يمشون به في الناس.

السر العظيم يكمن في الفرق بين قارئ يقرأ القرآن بلسانه باردا لا يقشعر جلده ولا يلين، ولا تنسكب دمعته ولا تكاد، وغاية ما يفكر فيه الأجر على القراءة -وهو حسن-، ولكن صاحب الدرجة العليا يقف عند مفردات القرآن، وتصيبه الدهشة من اختيارها وتركيبها، ويفكر في عظمة قائله تعالى، ويقف عند ضمائر الجلال الإلهي: (أعطيناك .. كفيناك .. خلقتك .. إنا نحن نرث الأرض ومن عليها .. وأوحينا .. والأرض فرشناها فنعم الماهدون.. وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني..).
تلك الضمائر الباهرة التي لا تكاد تخلو منها آية من القرآن تعود إلى رب العزة تعالى .. فيا لغفلة قلب كقلبي يمر بها مر الكرام ولا تحرك وجدانه، ولا تصنع له سلما ليصل إلى مقام الإحسان فيعبد الله كأنه يراه!
وهذا يكتب له الأجر مضاعفا وإن لم يخطر على باله؛ لأنه يحقق قدرا من مقصد التنزيل.

السر العظيم يكمن في الفرق بين بعيد تنتابه حالة يقظة فيقبل ويحاول، ويسرق نفسه من المشاغل والصوارف والزحام؛ ليخلو بربه، ويستحضر قربه، ويناجيه بكتابه، ثم يجرفه تيار الحياة المعتادة فيلهو ويتشتت.. وبين عبد عرف طريقه، وركن إلى ربه، واستقام أمره، وانطبع بطابع الربانية والقرب حتى يتحلى هذا في ملامح وجهه وسمته وحروفه وعباراته وسلوكه.. فله زاد يومي يسقي فيه شجرة الإيمان من الذكر والتسبيح والقرآن والدعاء، وكل ذلك بقلب حاضر مجتمع على الله..

وإن كان الأمر لا يتأتى إلا بمجاهدة طويلة، وتلك الحالات العابرة تكثر لمن أراد الله به خيرا، وتتقارب حتى يلتحق بأصحاب الحال الدائمة، ولعل هذا من معنى قول الحق سبحانه: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} (9:العنكبوت).
ويشير لهذا الحديث الصحيح الوارد عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: "فإن لكل عابد شرة ، ولكل شرة فترة ، فإما إلى سنة ، وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة ، فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" (أحمد وابن حبان في صحيحه).
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن لكل شىء شرة ولكل شرة فترة فإن كان صاحبها سدد وقارب فارجوه وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) (أخرجه الترمذي).

مبتدئ مثلي حين يقترب من ربه يشعر وكأنه يحمل شيئا يثقله ويهم بإلقائه بين حين وحين؛ لأنه لم يتدرب ولم تصبح له عادة، ولذا قال ثابت البنانى: جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة أخرى.
والدعاء مما يجتمع القلب عليه؛ لأن الداعي يشعر بالحاجة والافتقار والاضطرار إلى الله؛ فيلين قلبه ويخشع، فإذا أجيبت دعوته فربما عاودته الغفلة، {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} (12:يونس )، مر كأنه لم يعرف ربه يوما، ولم ينكسر قلبه لله، ولا انسكبت دموعه بين يديه.
ولذا قال بعض السلف: (لله در الحاجات فلولاها ما نزلنا منازل القرب، ولا حللنا حظائر القدس).
والله يبتلى عبده بالشدة، والمرض، والفقر، وتسلط ظالم عليه، وتعقيد بعض أموره؛ ليسوقه إلى رحابه الواسعة، وليسمع دعوته الضارعة، ويرى عينه الدامعة.. وهو الغني ونحن الفقراء

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة