خصائص لُغة الحديث النّبويّ الشّريف 1-3

0 1137

عمد بعض الباحثين اللغويين إلى دراسة بناء الجملة في الحديث النبوي الشريف، من خلال صحيحي البخاري ومسلم، ونظروا فيهما نظرة الفاحص المتأمل - على طاولة البحث اللغوي -، حتى توصلوا إلى أن الخصائص اللغوية التي تميز الحديث النبوي الشريف من غيره يمكن أن تكون معيارا جديدا، ومقياسا لغويا يسهم في تعيين الحديث الصحيح، والكشف عن الحديث الموضوع، كما تكشفت لهم آفاق في خصائص لغة الحديث النبوي الشريف؛ ومن ذلك ما يلي:

الأولى: الغنى في الأفكار، والعمق في المعاني، وسبر أغوار النفس الإنسانية، حتى إنه يمكن القول: إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك معنى من معاني الحياة، والعقيدة، والتشريع، والخلق إلا قررها، وفصل فيها القول، ولنضرب مثالا واحدا من آلاف الأمثلة من الأحاديث: عن عائشة أن أم سلمة رضي الله عنهما ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) رواه البخاري.

الثانية: السمو، والشمول، والارتقاء بالمستوى الإنساني، ومن أمثلة ذلك من الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: (لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، وإن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) متفق عليه.

الثالثة: الإحكام في عرض الأحكام الدينية، وعدم التناقض في سياق الأفكار، والدقة البالغة في إبلاغ المعنى، والسلامة من التنافر، والاختلاف، ومن ذلك حديث: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) رواه مسلم.

الرابعة: قوة التراكيب اللغوية، وفصاحة الكلمات، ووضوح الدلالة، وهذه سمات الكلام الفصيح، والبيان البليغ، أن يكون متين التراكيب واضح الدلالة، ولا يمنع ذلك ما ورد من كلام عن غريب الحديث، وما ألف فيه من كتب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وكان يحدث الوفود، والقبائل بلهجاتهم.
ومن أمثلة ذلك حديث: (إن الحلال بين وإن الحـرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه، ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام، كـالراعي يـرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فـسـدت فـسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه.

الخامسة: البعد عن التكلف، والوصول إلى المعنى بسهولة ويسر، وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه ينهى عن التشدق، والتكلف، والتفيهق، والتنطع، والثرثرة، ومشابهة الكهان في أسجاعهم، وفي الحديث الصحيح: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون)، قالوا: يا رسول الله! قد علمنا "الثرثارون والمتشدقون"، فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون) رواه الترمذي.

السادسة: غنى الحديث النبوي الشريف بألوان التصوير، والبيان، والمجاز اللطيف المحرك للنفس، والمصور للمعنى، وبديع القول، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) متفق عليه، وأيضا حديث: (ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدي زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، حتى تنطحه بقرونها، وتطأه بأخفافها، كلما نفدت عليه أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضي الله بين الخلائق أو الناس) رواه مسلم، وأيضا حديث: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة؛ ريحها طيب وطعمها طيب, ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن؛ كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو, ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة؛ ريحها طيب وطعمها مر, ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر) متفق عليه.

السابعة: كثرة الإشارات، وحركات اليد، وعبارات التنبيه، وتكرار القول، واستخدام أساليب التوكيد.. كل ذلك لإيضاح المعنى، وتوكيده، وتقريره، والحرص على إبلاغه للناس كافة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع مجلسا يتحدث فيه إلى قوم حتى يطمئن إلى أن رسالته قد بلغت، وأن حكم الله قد فهم، ولهذا كثرت تلك الإشارات، والوسائل التي يوضح فيها القول، وقد توصل علماء اللغة المعاصرون إلى إدراك أثر هذه الوسائل في إبلاغ المعنى، فتحدثوا عما سموه علم اللغة الحركي "السيمياء"، ووضعوا له النظريات العديدة.

الثامنة: التفصيل في القول، والتمهل في الحديث، والإبانة في النطق، والدقة في الأداء، دل على ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من يسمعه" رواه أبو داود.

ومن أجود ما وصف به حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ولغته، قول الجاحظ في (البيان والتبيين): "وأنا ذاكر بعد هذا فنا آخر من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قل يا محمد: {وما أنا من المتكلفين}، فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التعقيب، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت به قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطيء ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيرا".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة