اشتكى الجمل، وسلم الحجر، وحنَّ الشجر حُباً للنبي

0 2883

أحب الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبهم لأنفسهم وآبائهم وأبنائهم، وقد سئل علي رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ". والسيرة النبوية زاخرة بالأمثلة الدالة على حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم.. وإن لم يكن عجيبا أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فالعجيب حقا أن يحبه ويشتاق إليه الجماد والشجر، والطير والحيوان، قال ابن الجوزي: "فحن إليه الجذع، وكلمه الذئب، وسبح في كفه الحصى، وتزلزل له الجبل، كل كنى عن شوقه بلسانه".

       أنت الذي حن الجماد لعطفه      وشكا لك الحيوان يوم رآكا
       والجذع يسمع بالحنين أنينه        وبكاؤه شوقا إلى لقياكا

حب الحيوان والشجر والجماد للنبي صلى الله عليه وسلم يمثل جانبا هاما من معجزاته ودلائل نبوته، وقد نقل إلينا الصحابة رضوان الله عليهم صورا وأمثلة كثيرة من هذا الحب، ومن ذلك:

جمل يشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (أردفني (حملني) رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه، فأسر إلي حديثا لا أخبر به أحدا أبدا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل (مجموعة)، فدخل يوما حائطا (بستانا) من حيطان الأنصار، فإذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه، قال بهز وعفان: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فمسح رسول الله لى الله عليه وسلم سراته وذفراه (ظهره وأذنيه) فسكن، فقال: من صاحب الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما تتقى الله في هذه البهيمة التي ملككها الله، إنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه (تتعبه)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: "شكا إلي" بالنطق، أو بفهمه من فعله المذكور، وكل معجزة".

شجر يسلم، وجذع يبكي حبا وشوقا:

عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرة استأذنت تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له ذلك، فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل أن تسلم علي فأذن لها) رواه أحمد.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد فيخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه وكأنك قائم؟ فصنع له منبرا له درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على ذلك المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد، حزنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم، فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من المنبر فالتزمه (ضمه إليه) وهو يخور، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن، ثم قال: أما والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة، حزنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فدفن) رواه الترمذي وصححه الألباني .
قال المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه: "لا تلوموه ـ أي: الجذع ـ، فإن رسول الله لم يفارق شيئا إلا وجد (حزن) عليه".

             يحن الجذع من شوق إليك      ويذرف دمعه حزنا عليك
            ويجهش بالبكاء و بالنحيب        لفقد حديثكم و كذا يديك

حجر يسلم، وجبل يهتز، حبا وفرحا بالنبي:

إن كان عجيبا أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه حياة وهو لا يعقل، كالشجر الذي كان يعرفه ويسلم عليه، والجذع الذي اشتاق إليه، فالأعجب حقا أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه حياة ولا عقل، شيء إن نظرت إليه ظننت أنه لا يعقل، ولا يسمع ولا يرى، ولكنه في الحقيقة يسمع ويعقل، بل يحب النبي صلى الله عليه وسلم. 
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ـ أي حجر ـ ولا شجر، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله) رواه الترمذي وصححه الألباني. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم على قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن) رواه مسلم. قال النووي: "فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة:74)".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدا جبل يحبنا ونحبه) رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله قال: اثبت أحد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيدان) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل، فقال لما اضطرب: (اسكن أحد)".
وقال ابن عثيمين: "وارتج بهم الجبل وهذا من آيات الله، ليس هو ارتجاج نقمة وخسف، لكنه ارتجاج فرح".

              لا تلوموا احدا لاضطراب إذ علاه فالوجد داء
              احد لا يلام فهـو محب ولكم أطرب المحب لقاء

لقد أنطق حب النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، وحرك الشجر، وأبكى الجذع، وأسكب دمع البعير، وحرك الجمادات والنباتات شوقا إليه وفرحا به.. إنها آيات ومعجزات لنبينا صلى الله عليه وسلم حدثت له في حياته ورآها أصحابه، وثبتت في صحيح الأخبار، فيجب تصديقها والإيمان بها، وهي من جملة دلائل نبوته، وإذا كانت هذه المخلوقات التي لا تعقل تحبه وتشتاق إليه، وتطيعه وتمتثل أمره (وهي غير مكلفة) فأين نحن من حبه صلوات الله وسلامه عليه؟!! وأين نحن من اتباعه وطاعة أمره، والاقتداء بسنته وهديه؟!!

          ولو لم يكن في القلب حب محمد    لعمت بك البلوى و دام الضلال

وكان الحسن البصري يقول: "يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه، أفليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه؟!".

            حن جذع إليك وهو جماد           فعجيب أن يجمد الأحياء

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة