بيان

0 960

استمعت ذات حين لمحاضرة للدكتور مصطفى محمود رحمه الله عن أقدم اللغات، فأعجبني إيمانه العميق بالعربية وحديثه الروحاني عنها، كان يعدها -فيما أتذكر- فرعا عن السريانية (منسوبة لسوريا والشام القديم؛ الذي يشمل بعض العراق أيضا)..
واستشهد بما يقول إنه أقدم مخطوط وعمره أربعة آلاف سنة، وهو موجود في مناجم الفيروز بسيناء..
وأفاض بسرد الكلمات ذات الأصول العربية الموجودة في اللاتينية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، وخاصة الكلمات العلمية والطبية والتشريحية، والتي غالبها عربي ويوجد في تتبعها كتاب مفرد..
وهذا يتفق مع قول الحسن البصري: "خرج آدم من الجنة ولغته السريانية".

العربية لغة الكتاب الأخير والرسول الخاتم، ولأمر ما جمع الله بين العربية وبين التعقل في قوله: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف:2].
فما بال العرب اليوم أبعد شعوب الأرض عن الحكمة والبصيرة بمصالح دينهم ودنياهم؟
العربية أوسع اللغات وأكثرها ثراء بالمفردات، والأسماء، والقواعد، والاشتقاقات، والبدائل..
ومع كثرة الكلمات الدالة على معنى واحد؛ كما قال المعري: "الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما!"، إلا أن هذا لا يعني الترادف المحض، فلكل اسم معنى خاص، ومستوى يحدد الاستخدام؛ كما يسمى الماء النازل من السماء بالسيل، والمطر، والغيث، والودق، والحيا، والوابل، والمزن، والرش، والرذاذ، والديمة.. إلخ
في التنزيل امتن الله تعالى على الإنسان باللغة فقال: {الرحمـن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن:1-4].
اللغة رحمة، ومنة ومنحة من الرحمن الرحيم..
والتدرب على جودة الكلام وانتقاء العبارات والسلامة من آفات اللسان اللفظية؛ كالتردد في نطق بعض الحروف من تمام النعمة، ومثلها السلامة من اللحن في اللسان العربي، والسلامة من الآفات المعنوية؛ كالبذاءة والثرثرة واللغو والتأثيم !
زرت مرة مدارس الصم فأحسست بالكلام يحشرج في صدورهم ، ويعجزون عن البوح به، فيتحول إلى ألم عميق في صدورهم.
وأشد ألما من يعرض له مرض (جلطة)، أو حادث فيعجز عن الحديث والرد والجواب والتعبير، فترى وجهه يتمعر.

وقريب من هذا وذاك من لا يجد أنيسا يثق به، ويطمئن إليه، ويبثه شكواه، فينطوي على نفسه.
ولذا قال يعقوب عليه السلام: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف من الآية:86].
قال تعالى: {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} [يوسف:84].
فالصمت الطويل على الأحزان قد يتحول إلى علة تثقل القلب ، وتعمي البصر، وتصم الأذن، وتطرد النوم، وتذهب القدرة وتعجل بالموت:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا!

البيان ميزة الإنسان:
وله أدوات حسية جسدية مادية؛ الحنجرة واللسان والأسنان والحنك وتوابع ذلك، ولذا تختلف حنجرة الإنسان عن باقي الكائنات..
وله أدوات عقلية معرفية تظهر في الفهم، والوعي، والإدراك، والتمييز بين الأشياء، وإدراك الرموز.
سمعت مرة من شيخي الراحل صالح الحصين رحمه الله من مقوله أو منقوله أن اللغة تفكير ناطق، والتفكير لغة صامتة.
والذين يزعمون أن أصل اللغة هو تقليد الإنسان لمن حوله من الطيور والحيوانات، وما حوله من أصوات الطبيعة؛ كحفيف الأشجار، وخرير المياه.. ينسون أن الطيور والحيوانات لم تأخذ لغتها مما حولها، بل ألهمها خالقها منطقا معبرا عن حاجتها: {وورث سليمان داوود ۖ وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ۖ إن هـذا لهو الفضل المبين} [النمل:16].
وسمى الله ما صدر من النملة (قولا)، {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل من الآية:18]، {فتبسم ضاحكا من قولها} [النمل من الآية:19].
وأصوات الحيوانات تكون تعبيرا عن الخوف أو طلب النجدة أو الجوع أو طلب التزاوج أو الاحتجاج.. ويتلقى عنها هذه الرسائل رعاتها والقريبون منها.
أما ما يكون من القول فيما بينها فهو مما لا يزال محجوبا عن البشر..
لغة الإنسان إلهام رباني وتفرد إنساني.
واللغة هي الركن الأساس في الحضارة والخلافة والعمران.

وتنوع اللغات كتنوع الشعوب والقبائل، أداة للتواصل والتثاقف والتبادل المعرفي، وبغض النظر عن كلام الإمام ابن تيمية في التحدث بغير العربية وضرره، إلا أن الظروف الإنسانية والحضارية تغيرت اليوم وأصبح تعلم اللغات ضرورة للشعوب الراغبة في خوض السباق الحضاري والاستعداد للتأثر والتأثير الإيجابي، وتدريسها للصغار مهم؛ لأن الطفولة هي الفترة الذهبية لتلقي اللغة.
وطالما شعرت بالندم على فوات تعلم اللغة الإنجليزية مما صنع حاجزا كبيرا عن أناس كان من الممكن أن أفيدهم أو أستفيد منهم، والمحاولات المتأخرة قد لا تعطيك أكثر من (أمشي نفسي!)..
على أن هذا التعلم المهم والضروري يجب ألا يضعف اعتزازنا بلغة الضاد، لغة القرآن، لغة أهل الجنة، لغة آدم؛ كما يقول بعضهم ....
فاللغة هوية وانتماء.. اللغة أم.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة