بعد الخمسين .....

0 1101

نظرت في التقويم فوجدت أني أستكمل اليوم (23 جمادى الأولى 1379هـ) اثنتين وخمسين سنة قمرية، فوقفت ساعة أنظر فيها في يومي وأمسي، أنظر من أمام لأرى ما هي نهاية المطاف، وأنظر من وراء لأرى ماذا أفدت من هذا المسير.
وقفت كما يقف التاجر في آخر السنة ليجرد دفاتره ويحرر حسابه، وينظر ماذا ربح وماذا خسر. وقفت كما تقف القافلة التي جن أهلوها وأخذهم السعار، فانطلقوا يركضون لا يعرفون من أين جاؤوا، ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلا إذا هدهم التعب، فسقطوا نائمين كالقتلى!
وكذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة؛ نستبق كالمجانين، ولكن لا ندري علام نتسابق، نعمل أبدا من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير!
وجردت دفاتري، أرى ماذا طلبت وماذا أعطيت.
طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حدة بصري، وملأت بها ساعات عمري، وصرمت الليالي الطوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتبا، من أدباء اليوم من لم يفتحها مرة لينظر فيها! وما كان لي أستاذ يبصرني طريقي ويأخذ بيدي، وما كان من أساتذتي من هو صاحب أسلوب في الكتابة يأخذني باتباع أسلوبه، ولا كان فيهم من له قدم في الخطابة، وطريقة في الإلقاء يسلكني مسلكه، ويذهب بي مذهبه. وما يسميه القراء "أسلوبي في الكتابة"، ويدعوه المستمعون "طريقتي في الإلقاء" شيء من الله به علي لا أعرفه لنفسي، لا أعرف إلا أني أكتب حين أكتب، وأتكلم حين أتكلم، منطلقا على سجيتي وطبعي، لا أتعمد في الكتابة إثبات كلمة دون كلمة، ولا سلوك طريق دون طريق، ولا أتكلف في الإلقاء رنة في صوتي، ولا تصنعا في مخارج حروفي.

وكنت أرجو أن أكون خطيبا يهز المنابر، وكاتبا تمشي بآثاره البرد، وكنت أحسب ذلك غاية المنى، وأقصى المطالب، فلما نلته زهدت فيه، وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يشتهى ويتمنى.
وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كل مكان، وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وتتوارد عليك كتب الإعجاب، وتقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ رأيت سرابا… سراب خادع، قبض الريح!
وما أقول هذا مقالة أديب يبتغي الإغراب ويستثير الإعجاب، لا والله العظيم "أحلف لكم لتصدقوا" ما أقول إلا ما أشعر به. وأنا من ثلاثين سنة أعلو هذه المنابر، وأحتل صدور المجلات والصحف، وأنا أكلم الناس في الإذاعة كل أسبوع مرة من سبع عشرة سنة إلى اليوم، ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا خطبا زلزلت القلوب، وكتبت مقالات كانت أحاديث الناس، ولطالما مرت أيام كان اسمي فيها على كل لسان في بلدي، وفي كل بلد عشت فيه، أو وصلت إليه مقالاتي، وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقيت خطب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني مقالات ورسائل، ودرس أدبي ناقدون كبار ودرس ما قالوا في المدارس، وترجم كثير مما كتبت إلى أوسع لغتين انتشارا في الدنيا: الإنكليزية والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية… فما الذي بقى في يدي من ذلك كله؟ لا شيء. وإن لم يكتب لي الله على بعض هذا بعض الثواب أكن قد خرجت صفر اليدين!
إني من سنين معتزل متفرد، تمر علي أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أزار، ولا أكاد أحدث أحدا إلا حديث العمل في المحكمة، أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عزلتي إن كان في مراكش والهند وما بينهما من يتحدث عني ويمدحني، وماذا يضرني إن كان فيها من يذمني، أو لم يكن فيها كلها من سمع باسمي؟!
ولقد قرأت في المدح لي ما رفعني إلى مرتبة الخالدين، ومن القدح في ما هبط بي إلى دركة الشياطين، وكرمت تكريما لا أستحقه، وأهملت، حتى لقد دعي إلى المؤتمرات الأدبية، وإلى المجالس الأدبية الرسمية المبتدئون، وما دعيت منها إلى شيء، فألفت الحالين وتعودت الأمرين، وصرت لا يزدهيني ثناء، ولا يهز السب شعرة واحدة في بدني.
أسقطت المجد الأدبي من الحساب لما رأيت أنه وهم وسراب.

وطلبت المناصب، ثم نظرت فإذا المناصب تكليف لا تشريف، وإذا هي مشقة وتعب لا لذة وطرب، وإذا الموظف أسير مقيد بقيود الذهب، وإذا الجزع من عقوبة التقصير أكبر من الفرح بحلاوة السلطان، وإذا مرارة العزل أو الإعفاء من الولاية أكبر من حلاوة التولية. ورأيت أني مع ذلك كله قد اشتهيت في عمري وظيفة واحدة، سعيت لها وتحرقت شوقا إليها… هي أن أكون معلما في المدرسة الأولية في قرية حرستا، وكان ذلك من أكثر من ثلاثين سنة، فلم أنلها فما اشتهيت بعدها غيرها.
وطلبت المال، وحرصت على الغنى، ثم نظرت فوجدت في الناس أغنياء وهم أشقياء، وفقراء وهم سعداء.
ووجدتني قد توفي أبي، وأنا لا أزال في الثانوية، وترك أسرة كبيرة وديونا كثيرة، فوفى الله الدين وربى الولد، وما أحوج إلى أحد، وجعل حياتنا وسطا ما شكونا يوما عوزا، ولا عجزنا عن الوصول إلى شيء نحتاج إليه، وما وجدنا يوما تحت أيدينا مالا مكنوزا لا ندري ماذا نصنع به، فكان رزقنا والحمد لله كرزق الطير: تغدو خماصا وترجع بطانا.
فلم أعد أطلب من المال إلا ما يقوم به العيش ويقي الوجه ذل الحاجة.
وطلبت متعة الجسد وصرمت ليالي الشباب أفكر فيها، وأضعت أيامه في البحث عن مكانها، وكنت في سكرة الفتوة الأولى لا أكاد أفكر إلا فيها، ولا أحن إلا إليها، أقرأ من القصص ما يتحدث عنها، ومن الشعر ما يشير إليها. ثم كبرت سني وزاد علمي، فذهبت السكرة وصحت الفكرة، فرأيت أن صاحب الشهوة- الذي يسلك إليها كل سبيل- كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر، وكلما ازداد شربا ازداد عطشا، ووجدت أن من لا يرويه الحلال يقنع به، ويصبر عليه- لا يرويه الحرام، ولو وصل به إلى نساء الأرض جميعا.
ثم ولى الشباب بأحلامه وأوهامه، وفترت الرغبة ومات الطلب، فاسترحت وأرحت.

وقعدت أرى الناس، أسأل: علام يركضون؟ وإلام يسعون؟ وما ثم إلا السراب!
هل تعرفون السراب؟ إن الذي يسلك الصحراء يراه من بعيد كأنه عين من الماء الزلال تحدق صافية في عين الشمس، فإذا كد الركاب وحث الصحاب ليبلغه لم يلق إلا التراب.
هذه هي ملذات الحياة؛ إنها لا تلذ إلا من بعيد.
يتمنى الفقير المال، يحسب أنه إذا أعطي عشرة آلاف ليرة فقد حيزت له الدنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده لم يجد لها تلك اللذة التي كان يتصورها، وطمع في مائة الألف … إنه يحس الفقر بها، وهي في يده، كما يحس الفقر إليها يوم كانت يده خلاء منها، ولو نال مائة الألف لطلب المليون، ولو كان لابن آدم واديا من ذهب لابتغى له ثانيا، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب.
والشاعر العاشق يملأ الدنيا قصائد، تسيل من الرقة وتفيض بالشعور، يعلن أنه لا يريد من الحبيبة إلا لذة النظر ومتعة الحديث، فإذا بلغها لم يجدهما شيئا، وطلب ما وراءهما، ثم أراد الزواج، فإذا تم له لم يجد فيه ما كان يتخيل من النعيم، ولذابت صور الخيال تحت شمس الواقع، كما يذوب ثلج الشتاء تحت همس الربيع، ولرأى المجنون في ليلى امرأة كالنساء ما خلق الله النساء من الطين وخلقها "كما كان يخيل إليه" من القشطة، ثم لملها وزهد فيها، وذهب يجن بغيرها!
ويرى الموظف الصغير الوزير أو الأمير ينزل من سيارته، فيقف له الجندي، وينحني له الناس، فيظن أنه يجد في الرياسة أو الوزارة مثل ما يتوهم هو من لذتها ومتعتها؛ لحرمانه منها، ما يدري أن الوزير يتعود الوزارة، حتى تصير في عينه كوظيفة الكاتب الصغير في عين صاحبها. أوهام … ولكننا نتعلق دائما بهذه الأوهام!

وفكرت فيما نلت في هذه الدنيا من لذائذ، وما حملت من عناء، طالما صبرت النفس على إتيان الطاعة، واجتناب المعصية، رأيت الحرام الجميل، فكففت النفس عنه على رغبتها فيه، ورأيت الواجب الثقيل حملت فحملت النفس عليه على نفورها منه، وطالما غلبتني النفس فارتكبت المحرمات، وقعدت عن الواجبات، تألمت واستمتعت، فما الذي بقي من هذه المتعة وهذا الألم؟ لا شيء، قد ذهبت المتعة، وبقي عقابها، وذهب الألم وبقي ثوابه.
ولم أر أضل في نفسه، ولا أغش للناس ممن يقول لك: لا تنظر إلا إلى الساعة التي أنت فيها، فإن ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها.
لا والله؛ ما فات ما مضى، ولكن كتب لك أو عليك، أحصاه الله ونسوه، والآتي غيب كالمشاهد.
وما مثل هذا القائل إلا كمثل راكب سفينة أشرفت على الغرق، ولم يبق لها إلا ساعات، فما أسرع إلى زوارق النجاة إسراع العقلاء، ولا ابتغى طوق النجاة، كما يبتغيه من فاته الزورق، ولكنه عكف على تحسين غرفته في السفينة الغارقة يزين جدرانها بالصور، ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه: ما دامت السفينة غارقة على كل حال، فلم لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يفسد عمره كله بصلاح هذه الساعة، وإذا عرض له العقل يسفه عمله، فليضرب وجه العقل بكأس الخمر التي تعمي عينيه، فلا يبصر ولا يهتدي، وإن من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان!

هذا مثال من يجعل هذه الدنيا الفانية أكبر همه، ويزهد في الآخرة الباقية، ولو عقل لزهد في الدنيا. لا يحمل ركوته وعصاه، ويسلك البراري وحيدا، ولا يقيم في زاوية ويمد يده للمحسنين؛ فإن هذا هو زهد الجاهلين، وهو معصية في الدين. إن الزهد الحق هو زهد الصحابة والتابعين، الذين عملوا للدنيا، واقتنوا الأموال، واستمتعوا بالطيبات الحلال، وأظهروا نعم الله عليهم، ولكن كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكان ذكر الله أبدا في نفوسهم وعلى ألسنتهم، وكانت الشريعة نبراسهم وإمامهم، وكانت أيديهم مبسوطة بالخير، وكانوا لا يفرحون بالغنى حتى يبطروا، ولا يحزنون للفقر حتى ييأسوا، بل كانوا بين غني شاكر، وفقير صابر. ومن يحصل المال وينفقه في الطاعة خير ممن لا يحصل ولا ينفق، بل يسأل ويأخذ، ومن يتعلم العلم ويعمل به، خير ممن يعتزل الناس للعبادة في زاوية أو مغارة، ومن يكون ذا سلطان ومنصب فيقيم العدل، ويدفع الظلم، خير ممن لا سلطان له ولا عدل على يديه وليست العبادة أن تصف الأقدام في المحاريب فقط، ولكن كل معروف تسديه إن احتسبته عند الله كان لك عبادة، وكل مباح تأتيه إن نويت به وجه الله كان عبادة؛ إذا نويت بالطعام التقوي على العمل الصالح، وبمعاشرة الأهل الاستعفاف والعفاف، وبجمع المال من حله القدرة به على الخير، كان كل ذلك لك عبادة، وكل نعمة تشكر عليها، وكل مصيبة تصبر لله عليها كانت لك عبادة.
والإنسان مفطور على الطمع، تراه أبدا كتلميذ المدرسة؛ لـما بلغ فصلا كان همه أن يصعد إلى الذي فوقه. ولكن التلميذ يسعى إلى غاية معروفة، إذا بلغها وقف عندها، والمرء في الدنيا يسعى إلى شيء لا يبلغه أبدا؛ لأنه لا يسعى إليه ليقف عنده ويقنع به، بل ليجاوزه راكضا يريد غاية هي صورة في ذهنه، ما لها في الأرض من وجود!
وقد يعطى المال الوفير والجاه الواسع والصحة والأهل والولد، ثم تجده يشكو فراغا في النفس، وهما خفيا في القلب لا يعرف له سببا، يحس أن شيئا ينقصه، ولا يدري ما هو، فما الذي ينقصه، فهو يبتغي استكماله؟

لقد أجاب على ذلك رجل واحد؛ رجل بلغ في هذه الدنيا أعلى مرتبة يطمح إليها رجل: مرتبة الحاكم المطلق في ربع الأرض، فيما بين فرنسا والصين، وكان له مع هذا السلطان الصحة والعلم والشرف، هو عمر بن عبد العزيز الذي قال: "إن لي نفسا تواقة، ما أعطيت شيئا إلا تاقت إلى ما هو أكبر: تمنت الإمارة، فلما أعطيتها تاقت إلى الخلافة، فلما بلغتها تاقت إلى الجنة".
هذا ما تطلبه كل نفس؛ إنها تطلب العودة إلى موطنها الأول، وهذا ما تحس الرغبة الخفية أبدا فيه، والحنين إليه، والفراغ الموحش إن لم تجده.
فهل اقتربت من هذه الغاية، بعدما سرت إليها على طريق العمر اثنتين وخمسين سنة؟
يا أسفي! لقد مضى أكثر العمر، وما ادخرت من الصالحات، ولقد دنا السفر، وما تزودت ولا استعددت، ولقد قرب الحصاد، وما حرثت ولا زرعت، وسمعت المواعظ ورأيت العبر، فما اتعظت ولا اعتبرت، وآن أوان التوبة فأجلت وسوفت.
اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت ، فما يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم سترتني فيما مضى، فاسترني فيما بقي، ولا تفضحني يوم الحساب. ورحم الله قارئا قال: آمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة