وصايا لقارئي القرآن في رمضان

0 659

الحمد لله القائل في كتابه: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى}(البقرة:185)، والصلاة والسلام على رسوله الكريم الذي خصه الله بوحيه، وأنزل عليه خير كتبه، القائل: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، أما بعد:

فلقد خص الله هذا الشهر الكريم بخصائص؛ منها: أنه أفضل شهور السنة، وفيه ليلة القدر، وفيه نزل القرآن. فأنزله الله كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، وأنزل أول آياته في ليلة الوحي ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما تبعا للوقائع على مدار ثلاث وعشرين سنة، فشرف الشهر بنزول القرآن فيه، لذا صار يسمى: شهر القرآن. وعليه فالتلازم بين القرآن وشهر رمضان ظاهر.

أحوال الناس في قراءة القرآن:
في رمضان كثيرا ما يتساءل بعض الناس عن أيهما أفضل، قراءة القرآن بتدبر، أو قراءته على وجه الحدر، والاستزادة من بكثرة ختمه إدراكا لأجر القراءة؟

وهاتان العبادتان غير متناقضتين ولا متشاحتين في الوقت حتى يطلب السؤال عن الأفضل، والأمر في هذا يرجع إلى حال القارئ، وهم أصناف:
- الصنف الأول: العامة الذين لا يستطيعون التدبر، بل قد لا يفهمون جملة كبيرة من آياته، وهؤلاء لاشك أن الأفضل في حقهم كثرة القراءة. وهذا النوع من القراءة مطلوب لذاته لتكثير الحسنات في القراءة على ما جاء في الحديث: (لا أقول " ألم " حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).

-الصنف الثاني: العلماء وطلبة العلم، وهؤلاء لهم طريقان في القرآن:
الأول: كطريقة العامة؛ طلبا لتكثير الحسنات بكثرة القراءة والختمات.
الثاني: قراءته قصد مدارسة معانيه والتدبر والاستنباط منه، وكل بحسب تخصصه سيبرز له من الاستنباط ما لا يبرز للآخر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وهما مطلوبان معا، وليس بينهما مناقضة، كما سبق، بل كل نوع له وقته، وهو مرتبط بحال صاحبه فيه. ولا شك أن الفهم أكمل من عدم الفهم، لذا شبه بعض العلماء من قرأ سورة من القرآن بتدبر كان كمن قدم جوهرة، ومن قرأ كل القرآن بغير تدبر كان كمن قدم دراهم كثيرة، وهي لا تصل إلى حد ما قدمه الأول.

تنبيهات تتعلق بالتلاوة
ومما يحسن التنبيه على أمور تتعلق بتلاوة القرآن في رمضان:

الأمر الأول: الملاحظ أن كثيرا من الناس ينشطون في أول الشهر في أعمال الخير، ومنها تلاوة القرآن، لكن سرعان ما يفترون بعد أيام منه، وترى فيهم الكسل عن هذه الأعمال باديا. ومن أعظم الخسارة أن يمر على المسلم رمضان ولم يختم فيه القرآن ولو مرة.

ولأجل هذا فمن اعتاد من نفسه هذا الأسلوب فإن الأولى له أن يرتب قراءته، ويخصص لكل يوم جزءا، فإنه بهذا سيختم القرآن مرة في هذا الشهر، ولو استمر على هذا الأسلوب في كل شهور السنة لاستطاع ذلك، والأمر يرجع إلى العزيمة والإصرار. وبهذه الطريقة يكون مداوما على عمل من أعمال الخير غير منقطع عنه، و(أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) كما قال صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: يحسن بمن يقرأ القرآن عموما، وبمن يقرأه في رمضان على وجه الخصوص أن يكون معه تفسير مختصر يقرأ فيه ليعلم معاني ما يقرأ، وذلك أدعى إلى تذوق القراءة والإحساس بطعم قراءة القرآن، وليس من يدرك المعاني ويعلمها كمن لا يدركها. ومما يمكن أن يعين في هذا الباب كتاب "التفسير الميسر"، أو تفسير "كلمات القرآن" فهو نافع لمن يريد أن يعرف المعنى الإجمالي للآيات فينبغي أن يحرص المسلم على أن يكون له تفسير من هذه المختصرات يقرأ فيه ويداوم عليه كما يقرأ القرآن ليجتمع له في قراءته الأداء وفهم المعنى.

الأمر الثالث: في حال قراءة القرآن تظهر بعض الفوائد أو بعض المشكلات، ولابد من التقييد لهذه الفوائد أو المشكلات؛ لئلا تضيع.

الأمر الرابع: إن القراءة بالليل من أنفع العبادات، وكم من عبادة لا تخرج لذتها للعابدين إلا في وقت الظلمة، لذا كان أهم أوقات اليوم الثلث الأخير من الليل، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطية؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ …).

وللأسف كثيرا ما نغفل عن عبادة الليل خصوصا في رمضان ـ مع ما يحصل منا من السهر ـ وتلك غفلة كبيرة لمن حرم لذة عبادة الليل.
فشمر عن ساعد الجد، وأدرك فقد سبق المشمرون قبلك، ولا تكن في هذه الأمور ذيلا بل كن رأسا، والله يوفقني وإياك لكما يحب ويرضى.

الأمر الخامس: إن من فوائد صلاة التراويح في رمضان سماع القرآن من القراء المتقنين، ومن أصحاب الأصوات الندية، الذين يقرؤون القرآن ويؤثرون بقراءتهم على القلوب، فتراك تجد بقراءتهم أثرا في قلبك، فاحرص على من يتصف بهذه الأوصاف، واعلم أن الناس في قبول الأصوات ذوو أذواق، فلا تعب قارئا لأنه لا يعجبك؛ فإن ذلك من الغيبة بمكان، لكن احرص على من تنتفع بقراءته، وهذا مطلب يحرص عليه، ومقصد يتوجه إليه.

الأمر السادس: يسأل كثيرون عن كيفية التأثر بالقرآن، ولماذا لا نخشع في صلواتنا حين سماع كلام ربنا؟
ولا شك أن ذلك عائد لأمور من أبرزها أوزارنا وذنوبنا التي نحملها على ظهورنا، لكن مع ذلك فلا بد من وجود قدر من التأثر بالقرآن، ولو كان يسيرا، فهل من طريق إلى ذلك؟

إن البعد عن المعاصي، وإصلاح القلب، وتحليته بالطاعات هو السبيل الأول للتأثر بهذا القرآن، وعلى قدر ما يكون من الإصلاح يبرز التأثر بالقرآن.

والتأثر بالقرآن حال تلاوته يكون لأسباب متعددة، فقد يكون حال الشخص في ذلك الوقت مهيئا، وقلبه مستعدا لتلقي فيوض الرب - سبحانه وتعالى -.
فمن بكر للصلاة، وصلى ما شاء الله، ثم ذكر الله، وقرأ كتاب ربه، ثم استمع إلى الذكر فإن قلبه يتعلق بكلام الله أكثر من رجل جاء متأخرا مسرعا خشية أن تفوته الصلاة، فأنى له أن تهدأ نفسه ويسكن قلبه حتى يدرك كلام ربه، ويستشعر معانيه؟!

ومن قرأ تفسير الآيات التي سيتلوها الإمام واستحضر معانيها، فإن تأثره سيكون أقرب ممن لا يعرف معانيها.

ومن قدم جملة من الطاعات بين يدي صلاته، فإن خشوعه وقرب قلبه من التأثر بكلام ربه أولى ممن لم يفعل ذلك.
وإنك لتجد بعض المسرفين على أنفسهم ممن هداهم الله قريبا يستمتعون ويتلذذون بقراءة كلام ربه، وتجدهم يخشعون ويبكون، وما ذاك إلا لتغير حال قلوبهم من الفساد إلى الصلاح، فإذا كان هذا يحصل من هؤلاء فحري بمن سبقهم إلى الخير أن يعزز هذا الجانب في نفسه، وأن يبحث عما يعينه على خشوعه وتأثره بكلام ربه.

الأمر السابع: يسأل كثير من المسلمين، كيف أحافظ على طاعاتي التي من الله علي بها في رمضان، فإنني سرعان ما ينقضي الشهر أبدأ بالتراجع عن هذه الطاعات التي كنت أجد لذة وحلاوة في أدائها؟

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رسم لنا منهجا واضحا في كل الأعمال، وقد بينه بقوله: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، ولو عملنا بهذا الحديث في جميع عباداتنا لحافظنا على الكثير منها، ولما صرنا كالمنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى.

فلو اعتمد المسلم في كل عبادة عملا يوميا قليلا يزيد عليه في وقت نشاطه، ويرجع إليه في وقت فتوره؛ لكان ذلك نافعا له، فالمداومة على العبادة ـ ولو كانت قليلة ـ أفضل من إتيانها في مرات متباعدة أو هجرانها بالكلية.

فمن أدى فرائضه، والتزم بالسنن الرواتب، ثم زاد عليها من أعمال العبادة ما شاء، فإنه يدخل في محبوبية الله التي قال فيها ـ في الحديث القدسي ـ: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).

ففي صلاة الليل يحرص أن لا ينام حتى يصلي ثلاث ركعات، ولو كانت خفيفات، فإن أحس بنشاط زاد، وإلا بقي على هذه الثلاث.
وفي قراءة القرآن يعتمد قراءة جزء كل يوم، حتى إذا بلغ تمام الشهر، فإذا به قد ختم القرآن.
وفي الصيام يعتمد ثلاثة أيام من كل شهر، وإن استطاع الزيادة زاد، لكن لا ينقص عن الأيام الثلاثة.
وفي النفقة يعتمد مبلغا ـ ولو يسيرا ـ بحيث لا يمر عليه الشهر إلا وقد أنفقه.

وهكذا غيرها من العبادات، يعتمد القليل أصلا، ويزيد عليه في أوقات النشاط، فإذا قصرت همته رجع إلى قليله، فيبقى في عباداته من غير كلفة ولا مشقة ولا نسيان وإهمال، أسأل الله أن يوفقني وإياكم إلى ما يحب ويرضى، ويجعلنا من أهل القول والعمل.

إن رمضان أشبه بمحطة يتزود منها الناس وقودهم، وهو محطة الصالحين الذين يفرحون ببلوغه فيتزودون منه لعباداتهم في الدنيا، ولجنتهم في الأخرى، وهو محضن تربوي فريد يدخله كل المسلمين: مصلحوهم وصالحوهم وعصاتهم، فهلا استطعنا اغتنام هذا الشهر؟.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة