عمل رمضان بين القبول والرد

0 852

ها هو شهر رمضان قد نقضت خيامه، وتنكست أعلامه، وتصرمت ساعاته، وترحلت أوقاته، بعد أن بقي بيننا ثلاثين يوما كانت ميدانا يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق فيه المتسابقون، ويحسن فيه المحسنون، تروضت فيه النفوس الطيبة على الفضيلة، وتربت فيه على الكرامة، وترفعت عن الرذيلة، وتعالت عن الخطيئة، واكتسبت فيه كل هدى ورشاد.

مضى رمضان وانقضى، وانفض سوق تجارته، وذهب إلى الله سبحانه محملا بأعمال العباد شاهدا لهم أو عليهم بما قدموا فيه، فياليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المردود فنعزيه؟

نعم، فقد ترك رمضان الناس بين رابح وخاسر، فالرابح فيه من وفق للطاعة، وقام بحق العبادة وأقبل على الله مجيبا داعي الطاعة، ومنادي السماء "يا باغي الخير أقبل"، فاجتهد في عبادته، ومن الله عليه بالقبول فهو أهم من العمل.

والخاسر فيه من لعب ولهى، ونام وسهى، ولم يقم لله فيه حقا، ولا رعى له فيه حرمة، وكذا من فرط في أيامه، وبالغ في أحلامه، وأكثر من آماله، ولكنه سوف وأخر وأهمل في أعماله، وأشد خسارة من عمل وأتعب نفسه، وأضنى بدنه ولكنه فسدت نيته وساءت طويته، ولم يخلص لله في عمله، ومثله وأسوأ من أعجبته نفسه، وغره جهده وعمله، فمن به على الله، وأدل بعمله على مولاه؛ فرده الله عليه، نعوذ بالله من الخذلان.

الخوف من عدم القبول:
لقد كان هدي المرسلين، إتقان العمل، وشدة الخوف من الرد، وعادتهم الإلحاح على الله بطلب القبول.
هذا إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل يبنيان أعظم بيوت الله، في أعظم أرض الله وأحبها إليه، بأمر من الله، ويرفعان قواعد البيت، وهما يدعوان ربهما أن يتقبل منهما: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ۖ إنك أنت السميع العليم}(البقرة:127).
كان وهيب ابن الورد يقرأ هذه الآية ويبكي ويقول: "يا خليل الرحمن! ترفع قوائم البيت وأنت مشفق ألا يتقبل منك؟!".

وهذه امرأة عمران تهب ما في بطنها لله تعالى ولخدمة بيته بيت المقدس، وتدعو بالقبول: {إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني ۖ إنك أنت السميع العليم}(آل عمران:35).

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أكون أعلم أن الله تقبل مني عملا أحب إلى من أن يكون لي ملء الأرض ذهبا".
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: لأن أستيقن أن الله تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة:27).

وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بهذا الوصف:{إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}(المؤمنون:57ـ61).

روى الإمام أحمد والترمذي، وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}(المؤمنون:60)، أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات).
قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي": "أي الذين يعطون ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة وقلوبهم وجلة أي خائفة أن لا تقبل منهم".

علامات القبول وأسبابه
لقد أخفى الله القبول لتبقى القلوب على وجل، وأبقى باب التوبة مفتوحا لئلا ينقطع عن القلوب الأمل، وجعل العبرة بالخواتيم لئلا يحتقر أحد أحدا مهما بلغ من العمل، ولئلا يغتر أحد منا بما عمل.
ومع ذلك تبقى للقبول علامات تدل عليه، فمن ذلك ما يكون قبل العمل، ومنها ما يكون بعده:
فقبل العمل:
ـ الحرص على إتمام صورة العمل وهيئته، وإكماله والإتيان به على أحسن صورة وأجملها وأتمها وأحسنها، وأن يكون متابعا فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمام المتابعة قدر الإمكان.

ـ ثم الحرص على الإخلاص فيه لله تعالى وصدق النية وإرادة وجه العلي القدير سبحانه وتعالى.

ـ ثم الانكسار بين يدي الله، وعدم الإدلال بالعمل عليه، وإخفاؤه وعدم التحدث به وذكره للناس.

ـ ثم الإلحاح على الله بالقبول والرضا وعدم الرد وكثرة طرق باب القبول، كما ورد عن السلف أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يتقبله منهم.

واما بعد العمل، فللقبول أيضا علامات منها:
ـ انشراح الصدر، وانفساح القلب، وخفة الظهر بعد أن انزاح عن كاهله ما كان يثقله من الأوزار كما قال الله تعالى لنبيه: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك}(الشرح:3:1).

ـ المسارعة في العبادات، والخفة إلى الطاعات، وعدم استثقال القربات، بل يحبها ويحب أهلها ويسعى إليها بحب وخفة.

ـ التوفيق للعبادات والطاعات والقربات فإن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها كما قال بعض الصالحين.

ـ أن يكون الحال بعد الطاعة أحسن منه قبلها، فيكون حالك بعد رمضان أحسن منه قبله، لا فيه، فإن في رمضان من موجبات الطاعة والمعينات والأسباب الميسرة لها ما ليس في غيره، وإنما يكون الحال أحسن منه قبل رمضان، كأثر من آثار قبول الطاعة فيه. قال ابن عطاء: "من وجد ثمرة عمله عاجلا، فهو دليل على وجود القبول آجلا".

ـ ومن أعظم علامات القبول: المداومة على فعل الخيرات، وعدم الانقطاع عن العبادات، والاستقامة على القربات، فإن (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم: فقالت: (كان عمله ديمة)، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه (إذا عمل عملا أثبته)، يعني داوم عليه. وقد قال لعبد الله بن عمرو :(يا عبد الله لا تكن كفلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل).

علامات الرد:
وكما أن الاستقامة هي أعظم علامات القبول، فإن العودة إلى الذنوب، والنكوص على الأعقاب، والزهد في الطاعات، وتركها، والعودة إلى المعاصي واقترافها بعد انقضاء موسم العبادة من أعظم علامات الرد.

فاحذر أن يضيع ما جمعته أو أن تهدم ما بنيته في رمضان بالعودة إلى المعاصي والذنوب بعده، فإن الشياطين تنتظرك بعد انطلاقها من حبسها وفكها من أسارها.

وقد حذرنا الله من هذا الارتداد على الأعقاب، وأن نكون مثل ريطة بنت سعد، وهي امرأة من قريش كانت تقضي يومها ونهارها تغزل غزلا رقيقا جميلا، فإذا جاء الليل أمسكت بطرف خيطها فنقضت ما عملته، وأفسدت كل ما صنعته، فحذرنا الله من مثل فعلها فقال: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}(النحل:92).

فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الذنب بعد الطاعة.. اللهم اجعلنا من المقبولين الفائزين، ولا تجعلنا من الخائبين الخاسرين.. اللهم اجعلنا من المرحومين، ولا تجعلنا من المحرومين.. اللهم آمين. وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وتقبل الله منا ومنكم أجمعين. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة