الإهمال وآثاره السيئة على الأمة

0 1300

الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، خلق الخلق وقدر لهم أقدارا، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يعلم ما كان وما يكون، ولو كان كيف يكون، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي؛ فإنها مهلكات تؤخر ولا تقدم، وتصغر ولا تكبر، وتهين ولا ترفع، (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [الحج: 18].

أيها المسلمون:
النقص والتقصير طبيعة بشرية، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. وإن الكمال لله وحده، والعصمة لأنبيائه ورسله.
وإن نظرة فاحصة لواقع المسلمين اليوم جموعا وأفرادا، دولا ومؤسسات، لتدرك أن عالما يهيج بتزاحم متطلبات عملية دينية ودنيوية، لهو أحوج ما يكون إلى ترتيب قائمة أولوياته، وعدم الخلط بين مهمها وأهمها، وفاضلها ومفضولها، وأحوج ما يكون أيضا إلى تحديد مستوى كفاءته، أو الرضا بالحال، أو الشعور بأن المجتمع برمته يمكن أن يصنف ضمن المجتمعات الإيجابية لا السلبية، والجادة لا المهملة، والمنجزة لا المسوفة.
ولا يمكن لأي فئة كانت أن تصل إلى مثل تلكم النتيجة إلا بصدق نظرتها إلى معيار رئيس، به يعرف السلب والإيجاب، والإنجاز والفشل. إنه "معيار الإهمال وجودا وعدما"، وموقف الأمة منه أفرادا وجماعات.
نعم، إنه الإهمال الذي يعد قنطرة إلى الفشل والضياع، والتسويف والتهوين. الإهمال الذي ما ترك بيتا إلا دخله، ولا نفسا إلا اعتراها، ولا مجتمعا إلا جثم عليه، إلا من رحم ربي، وقليل ما هم.
نعم -عباد الله- إنه الإهمال الذي هو رقية النزول لا الصعود، والرجوع إلى الوراء لا السير قدما.

إن الأمة الإسلامية تمتلك طاقات وقدرات في بنيها تؤهلهم جميعا إلى منافسة رواد الحضارة العالمية، كما أنها تملك بكل جدارة صناعة مستقبلها العالمي بأيدي بنيها، وعقول حكمائها، شريطة أن يلقى بالإهمال وراءها ظهريا.
فإن الحسرة كل الحسرة، والخجل كل الخجل أن يوجد لدى الأمة الفكرة والقدرة ثم هي تفتقر إلى الهمة، بعد أن يغتالها الإهمال فيئدها وهي حية، ولقد أحسن من قال:
ولم أر في عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام

عباد الله:
الإهمال سلوك سلبي، لا يسلم منه مجتمع ولا يكاد، فمن مقل منهم ومن مكثر، ومن المحال عادة أن تنشد الأمة تماما لا إهمال معه، كما أنه من الغبن والدنية أن تقع الأمة في إهمال لا جد معه، وإنما في التسديد والمقاربة، بحيث لا يتجاوز المرء الطبيعة البشرية المطبوعة بالنقص، ولا ينساق أيضا مع الخمول فلا يعرف عنه الجد والوعي.
فإن الإنسان من طبعه الظلم والجهل، (إنه كان ظلوما جهولا) [الأحزاب: 72].
وفي الإهمال يتحقق الوصفان: ظلمه لنفسه بتمكن صفة الإهمال منه، والتراخي معها، وكذلك وصف الجهل، وهو الجهل بعواقب الإهمال بالكلية، أو الجهل بحجمها، وكلاهما سالب مذموم.
وأحسن وصف يكشف هذه الحال هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" (رواه مسلم).
فالبائع نفسه -عباد الله- هو الجاد العامل، والموبق نفسه هو الخامل المهمل، سواء أكان إهماله ذاتيا، أو مجتمعيا؛ بمعنى: أن يكون طبع المجتمع ومنهجه العلمي والتعليمي سببا مساعدا، مع إهماله الذاتي. وهنا تكمن المشكلة، ويتسع الخرق والفتق على الراتق.
لقد اجتمع في ذم الإهمال -عباد الله- النصوص الشرعية، والأدلة العقلية، وأقوال الحكماء والشعراء، ولم يمدح قط إلا في قواميس الكسالى، ومعاجم القعدة الخوالف.

فمنهم من أهمل دينه وجد في دنياه، ومنهم من أهمل دنياه وجد في دينه، ومنهم من أهمل الأمرين معا فخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "أضر ما على المكلف: الإهمال، وترك محاسبة النفس، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فهذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور". اهـ كلامه -رحمه الله-.

إنه ما من مصيبة أو فشل يحلان بالأمة أو بأحد من أفرادها، إلا والإهمال ضارب بأوتاده فيهما، إما بإهمال غفلة أو إهمال قصد؛ إذ لا تحيط بهم مثل هذه النوائب إلا بإهمالهم، في إيجاد أسباب دفعها قبل وقوعها، أو على أقل تقدير في إيجاد أسباب رفعها بعد الوقوع.
لكن النفس -عباد الله- إذا ألفت السكون والدعة، توالت عليها نوائب النقص والمحن، حتى تستمرئها فتلغ في حمئها وهي لا تشعر، ثم لا يخيفها بعد ذلك أي خطب، ولا تكترث به.
وقد أحسن من قال:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه *** فليس له بعد الوقوع غبار
لذا -عباد الله- كان واجبا على الأمة أفرادا وشعوبا، قادة وعلماء، وآباء ومعلمين، ونحوهم، أن يعوا خطورة تفشي داء الإهمال بين ظهرانيهم، فما سبقنا غيرنا في دنياهم إلا بمدافعتهم له، وما تأخرنا في دنيانا وأخرانا إلا بتراخينا معه.
ولو أدركت الأمة هذه الغاية لأبصرت عدوها من صديقها، ونجاحها من فشلها، ولما استسمنت ذا ورم، ولا حسبت كل سوداء فحمة، ولا كل بيضاء شحمة، ولانطلقت في ميادين الدنيا والدين تنهل مما أفاء الله عليها منهما.
فحري بتلك أن تكون أمة قوية لا ضعيفة، وصانعة لا مصنوعة، إذا قالت فعلت، وإذا فعلت نجحت، وإذا نجحت وفقت.
ترجو نوال الأمر دون عزيمة *** ولديك أطياف من الآمال
أقصر ففيك من الخمول كفاية *** ما ضر شيء فيك كالإهمال

(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [الجمعة: 9، 10].
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الإهمال والتفريط واللامبالاة كلها تدل على تضييع الأمور الصالحة وتفويتها والزهد فيها، وما هذه من صفات المؤمنين الواعين، فإن المؤمن الواعي هو من يدرك أنه محاسب على كل شيء ضيعه مما لا يجب أن يضيع من دينه ومصالح دنياه، مجتمعا كان أو مؤسسة أو فردا، فإنهم في الحكم سواء؛ لأن الوعي والعزيمة ينفيان الإهمال والتفريط كما ينفي الكير خبث الحديد.
بالوعي والعزيمة -عباد الله- يفر المرء من داء الكمال الزائف الذي يغري المصابين به بأن ليس ثمة دواع إلى تصحيح الأخطاء، وثلم الثقوب.
بالوعي والعزيمة اللذين يدلان صاحبهما على التمييز بين الأهم والمهم، والفاضل والمفضول.
بالوعي والعزيمة القاضيين على التسويف القاتل في تأجيل عمل اليوم إلى الغد، فضلا عن شعار من جثم الإهمال على أفئدتهم، فصار شعارهم: لا تؤجل إلى الغد ما تستطيع فعله بعد غد!.

إن الشريعة الإسلامية مليئة بالنصوص الدالة على وجوب الجد والاجتهاد، والنهي عن الإهمال والتفريط والتسويف.
وإن من أجمعها على مستوى الأفراد: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان" (رواه مسلم).
ومن أجمع الأحاديث -عباد الله- على مستوى المجموع في الأمة: قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته" (رواه البخاري ومسلم).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة