أبو بكر والهجرة النبوية

0 1470

ما أحوجنا إلى التأمل في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم للاستفادة من دروسها وعبرها، والتعرف من خلالها على أحوال ومواقف الصحابة الكرام، ومعرفة فضلهم ومنزلتهم، في زمن تناسى فيه البعض قدرهم، بل وجد وظهر فيه من يطعن فيهم وينتقص منهم، وعلى رأسهم رفيق وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وهجرته: أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال الطحاوي عن الصحابة رضوان الله عليهم: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان". 

وأبو بكر رضي الله عنه هو عبد الله بن عثمان بن عامر، كنيته: أبو بكر، ولقبه الصديق، لتصديقه بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة تصديقه لحديث الإسراء والمعراج. وكان رضي الله عنه يسمى أيضا: عتيقا، فعن عائشة رضي الله عنها: (إن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا بكر، أنت عتيق الله من النار، قالت: فمن يومئذ سمي عتيقا) رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال أبو نعيم الأصبهاني في: "حلية الأولياء"، في التعريف بأبي بكر الصديق: "أبو بكر الصديق، السابق إلى التصديق، الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار، ورفيقه الشفيق في جميع الأطوار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، المخصوص في الذكر الحكيم بمفخر فاق به كافة الأخيار، وعامة الأبرار، وبقي له شرفه على كرور الأعصار، ولم تسم إلى ذروته همم أولي الأيدي والأبصار، حيث يقول عالم الأسرار: {ثاني اثنين إذ هما في الغار}(التوبة:40)، إلى غير ذلك من الآيات والآثار، ومشهور النصوص الواردة فيه والأخبار، التي غدت كالشمس في الانتشار".

وفي الهجرة النبوية الشريفة كان لأبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم مواقف، ظهر من خلالها مدى حبه وتوقيره للنبي صلى الله عليه وسلم، وخوفه عليه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب (والد البراء) رحلا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمل إلي رحلي، فقال عازب: لا، حتى تحدثنا: كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة، والمشركون يطلبونكم؟ قال (أبو بكر): ارتحلنا من مكة، فأحيينا، أو: سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة (اشتد الحر)، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا صخرة، أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب (الذين يبحثون عنا من المشركين) أحدا، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: فهل أنت حالب لبنا لنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا، ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كثبة (قليل) من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى. فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا).
قال ابن حجر: "وفي الحديث من الفوائد: خدمة التابع الحر للمتبوع في يقظته والذب (الدفاع) عنه عند نومه، وشدة محبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأدبه معه، وإيثاره له على نفسه، وفيه: أدب الأكل والشرب، واستحباب التنظيف لما يؤكل ويشرب، وفيه استصحاب آلة السفر كالإداوة والسفرة، ولا يقدح ذلك في التوكل".
وذكر ابن القيم في زاد الميعاد، والبيهقي في الدلائل: "أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله، فقال: أذكر الطلب (ما يأتي من الخلف) فأمشي خلفك، وأذكر الرصد (المترصد في الطريق) فأمشي أمامك، فقال صلى الله عليه وسلم: لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟ قال: أي والذي بعثك بالحق".
 
خوف أبي بكر على النبي من حشرات الأرض وحر الشمس:

لم يكن خوف أبي بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة قاصرا على خوفه عليه من أعدائه، بل كان يخاف عليه من أي شيء يؤذيه ولو كان حر الشمس وحشرات الأرض، ففي الحديث الذي رواه البخاري:(حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه)، وفي صحيح مسلم قال أبو بكر رضي الله عنه: (ثم قلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله). وروى الحاكم في مستدركه أنه لما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: (مكانك يا رسول الله حتى أستبريء لك الغار، فاستبرأه)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر".

أبو بكر أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم:

لا يجتمع في قلب عبد حب وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وبغض أبى بكر الصديق رضي الله عنه. فقد أجمعت الأمة على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس مكانة ومنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أول من أسلم من الرجال، وما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، وهو رفيق وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وهجرته، قال الله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}(التوبة:40)، قال السعدي: "{ثاني اثنين} أي: هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، {إذ هما في الغار} أي: لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب، فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على البال. {إذ يقول} النبي صلى الله عليه وسلم {لصاحبه} أبي بكر لما حزن واشتد قلقه، {لا تحزن إن الله معنا} بعونه ونصره وتأييده ".
وقد سأل عمرو بن العاص رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كنا نتحدث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك النبي فلا ينكره) صححه الألباني، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) رواه أحمد وصححه أحمد شاكر. قال ابن كثير: "وأفضل الصحابة، بل أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام:أبو بكر الصديق ثم من بعده عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب)، وقال ابن الصلاح: "أفضلهم على الإطلاق: أبو بكر ثم عمر"، وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: "ما أدركت أحدا ممن يقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر"، وقال الشافعي: "أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر".

وفاة أبي بكر الصديق وبكاء علي بن أبي طالب عليه:

توفي أبو بكر رضي الله عنه في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وقد بكى عليه المسلمون بكاء شديدا، وقد رثاه علي بن أبى طالب رضي الله عنه وهو يبكي يوم موته بكلام طويل ـ كما ذكر ابن الجوزي في كتابه "التبصرة"، والآجري في "الشريعة" ـ، عن أسيد بن صفوان قال: "لما قبض (توفي) أبو بكر الصديق رضي الله عنه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستعجلا مسرعا مسترجعا ( قائلا: إنا لله وإنا إليه راجعون) وهو يقول: اليوم انقطعت النبوة، حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستراحه وثقته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانـا، وأشدهم لله يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدبهم على الإسلام (أحرصهم عليه)، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا، وأشرفهم منزلة وأرفعهم عنده وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسوله وعن الإسلام أفضل الجزاء. صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سماك الله في تنزيله صديقا، فقال: {والذي جاء بالصدق وصدق به}(الزمر:33)، وآسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين صاحبه في الغار، ورفيقه في الهجرة".

لقد شرف الله عز وجل أبا بكر رضي الله عنه بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته والقرب منه حيا وميتا، فقد عاش معه ولازمه وصاحبه في هجرته وطوال حياته، ودفن بجواره صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك فضلا وشرفا، قال الله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}(التوبة:40).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة