إمكانات متزايدة

0 712

إن الله -جل وعلا- خلق الدنيا دارا للابتلاء، فوفر فيها كل شروط الابتلاء، وإن من تمام الابتلاء أن يمكن الله عباده من الوصول إلى ما يطمحون إليه ما دام في إطار سننه في الخلق، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بوضوح تام؛ حيث قال -تباركت أسماؤه-: { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا . ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء بك وما كان عطاء ربك محظورا } [الإسراء:18-20]

إن إرادة الله -تعالى- طليقة، فهو يوجه عطاءه إلى من يسعى إليه إن شاء ويطلبه، ويأخذ بأسبابه بقطع النظر عن كون المطلوب أمرا دنيويا أو أخرويا. وهذا ما نشاهده اليوم على أوسع نطاق ممكن؛ حيث أن التقدم التقني والعلمي واتساع المدن ووفرة الأموال -بين يدي شريحة واسعة على الأقل- وتلون فنون العيش قد أدت إلى بسط غير مسبوق في إمكانات الناس وقدراتهم. إن المجال المتاح لرجل يعيش مع إبله في البادية أو مع شجره وزرعه في القرية محدود جدا.

إن الوسائل المتاحة له كي ينفع وكي يضر وكي يدفع بالمسيرة إلى الأمام أو يكون حجر عثرة في طريقها محدودة للغاية؛ وذلك بسبب ضعف التمدن وتخلف العمران في كل من البادية والقرية.
وإذا قارنت ما يمكن لعشرين راعيا للغنم أن يتركوه في الناس من آثار في سلوكهم مع ما يمكن أن يفعله اليوم عشرون شخصا يعملون في قناة فضائية، لأدركت حجم الإضافة التي حدثت في الخمسين سنة الماضية. ما الذي حدث فعلا خلال هذه المدة على صعيد توسع الإمكانات، وما مدى تأثيره في الوعي والخلق والسلوك؟

بمقاربة أولية يمكن أن نقول الآتي:

1- كلما زادت الإمكانات التقنية والمادية بين أيدي الناس اتسعت مساحات الحركة أمامهم، وزادت الخيارات والبدائل مما يزيد الناس قوة إلى قوتهم. ويزيد مع كل هذا ابتلاء الله -تعالى- لهم.

2- يكثر أهل الخير ويعظم تأثيرهم، ويكثر أهل الشر والباطل، ويعظم أيضا تأثيرهم، وذلك بسبب كثرة الوسائل التي يمكن أن يستخدمها هؤلاء وهؤلاء. وبعض الناس لا يدرك هذا؛ فيتحدث عن الشر المستطير الذي يقلقه، ولا يتحدث عن الخير الذي يحيط به. وبعض الناس يفعل العكس.

3- تنحسر الاجتهادات والرؤى السابقة وتقصر عن توفير التغطية الثقافية والتوجيهية، ويجد أهل العلم والفكر أنفسهم في حاجة ماسة إلى التوصل إلى فتاوى واجتهادات ونظريات جديدة. وهذا يعني بداهة أن تكثر المسائل المثيرة للجدل.

4- تضعف الرقابة الاجتماعية، وتتسع مساحات الخصوصيات، ويذوق الناس طعم الرفاهية، ويصبح لجم النفوس عن مشتهياتها أشق. وكل هذا من تصاعد الابتلاء مع تصاعد القدرة والمكنة.

5- تصبح إمكانات الحركة أكبر من إمكانات ضبطها، وتقييدها، كما تكبر الفجوة بين إمكانات الغش والتزوير وإمكانات كشفه وحصره.

6- يظهر على نحو مفاجئ كل ما كان ملغيا أو متجاهلا أو مكبوتا، ويأخذ ظهوره شكل الانفجار، وأحيانا شكل تعويض ما فات، أو شكل الانتقام ممن تسبب في التهميش والإلغاء.

7- حين يأخذ التقدم المادي هيئة الطفرة فإن الناس يعيدون ترتيب أولوياتهم من غير وعي منهم. ويكون ذلك -في الغالب- تعبيرا عن الانحياز إلى المصلحة على حساب المبدأ.

8- يحدث صراع مكشوف بين الثقافة بوصفها رمزا لعالم المعنى وبين الحضارة بوصفها مطلبا لراحة البدن. وكثيرا ما تغلب الحضارة الثقافة، كما يبدد الامتداد الاتجاه، والمكان الزمان.
إذن كان هذا التشخيص صحيحا، فما الذي يجب عمله؟

9- لا ينبغي أبدا الاستسلام لليأس والانسحاب من الساحة بسبب ما نرى من كثرة الشر والفساد، وعلينا أن نتأمل بعمق لنرى كثرة الخير بالمقارنة مع ما كان قبل، ولنرى أيضا الإمكانات الكبرى لتكثيره ونشره. لقد كان أهل العلم قديما يغبطون العالم إذا اجتمع في حلقته مائة طالب يكتبون ما يقوله.
واليوم صار في الإمكان أن يستمع للعالم الواحد مئات الملايين في وقت واحد، كما صار في الإمكان الاطلاع على كثير من الجهود الخيرة التي تبذل في سائر أنحاء العالم.

10- الإسلام مجموعة من المبادئ والمثل والقيم، وهذه مجتمعة تتأبى على الفرض والإلزام. إن القيم لا تفرض، لكنها تجذب من خلال تجسدها في سلوكات الأفذاذ والأخيار. وإن وعي الناس قد تقدم إلى درجة جعلهم لا يكترثون بالكلام المنمق عن الفضائل والمحامد.
وصار الإيحاء الذي تشعه الأوضاع الجيدة والسلوكات المستقيمة والراقية أعظم تأثيرا في نفوس الشباب وعقولهم، وهذا يحملنا مسؤولية تمثل القيم الإسلامية في حياتنا الشخصية والعامة، وإن كل واحد منا يستطيع -لو أراد- أن يقدم نموذجا يقتدي به الناس في جانب من جوانب الحياة الفاضلة، أو مسلك من مسالك الطريق القويم.

11- إذا لم يكن لك روح عصر كانت لك كل شروره. أن تكون فقيرا بين فقراء أو جاهلا بين جهلة أو فوضويا بين فوضويين... فذاك أمر يظل محدود الأضرار. لكن أن يكون المرء جاهلا بين علماء أو فقيرا بين أغنياء أو فوضويا بين منظمين.... فهذا يعني أن كل مشاكل أولئك ستحل على حسابه.
وهكذا فإن الضريبة التي سندفعها نتيجة عدم فهم روح العصر، ونتيجة عدم الاستجابة لتحدياته ستكون مضاعفة أضعافا كثيرة!

12- لنقلل من الشكوى قدر الاستطاعة، ففي زمان العولمة تقل فائدة الشكوى، ويقل وجود الذين يمكن أن نشكو إليهم، ولنعمل دائما على محاصرة الشر بالخير، والباطل بالحق، والهزيمة بالنصر. ولنكن ملء السمع والبصر.

13- التقدم الحضاري يتيح الكثير من الفرص، فلنحاول اقتناصها والاستفادة منها. وأولو العزم من المؤمنين يتجاوزون ذلك إلى صناعة الفرص حيث تكشف الإرادة الصلبة والعزيمة الماضية عن الإمكان الحضاري المستتر تارة، وتصنعه تارة أخرى.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة