الجُملة الفعليَّة في لغة الحديث الشَّريف 4-5

0 1560

إن الذي يطلع على (صحيح البخاري) يجد نفسه أمام معجم لغوي صغير يطل عليه بين الفينة والفينة، وعندما تقلب (صحيح البخاري) تجد نفسك أمام نص لغوي يمكن أن تقام عليه دراسات في علوم اللغة العربية، على مستوياتها الأربعة: الصوت، والصرف، والنحو، والدلالة.

ولعل أصحاب المعجمات الذين جاؤوا بعد ظهور (صحيح البخاري) اعتمدوا اعتمادا مباشرا عليه، ولا سيما بعد أن تجد أن كثيرا من الأحاديث المعتمدة في معجماتهم يمكن تخريجها من أصح كتب الحديث وهو (صحيح البخاري).

وحينما قام بعض الباحثين بدراسة الأحاديث النبوية الواردة في (صحيح البخاري) على مائدة البحث اللغوي، وجدوا أن الجملة الفعلية الخبرية المثبتة في الأحاديث المرفوعة قد وردت في (سبعة وخمسين وثلاثمئة وألفي) موضع، ووجدوا أن الجملة الفعلية التي لا محل لها من الإعراب في الأحاديث المرفوعة في (صحيح البخاري) قد بلغت (أربعة وسبعين وأربعمئة وألف).

وقاموا بدراسة هذه النصوص من حيث طريقة النظم والإعراب وفق الدلالة الزمنية للأفعال والبناء للمعلوم، والبناء للمجهول، والتمام والنقصان، والتقديم والتأخير، ومن ثم الوظيفة النحوية للجملة. ومرت معنا - في المقالات السابقة - أمثلة عدة من الحديث النبوي الشريف لهذه الظواهر اللغوية، ونستكمل - بإذن الله تعالى - بعض المحاور اللغوية المتعلقة بهذا المبحث.

سابعا: الجملة ذات الفعل الماضي الذي هو من أفعال المقاربة والشروع.

أفعال المقاربة: ومن نماذجها في الحديث النبوي الصحيح: (أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكاد أميـة بن أبي الصلت أن يسلم)، (فإذا اقترب ارتفعوا، حتى كاد أن يخرجوا)، ولم ترد غير هاتين الجملتين من الجمل الاستئنافية ذات الفعل الماضي الذي هو من أفعال المقاربة.

الجملتان الاستئنافيتان آنفتا الذكر، لا محل لهما من الإعراب، وقد تصدرت الأولى بحرف الاستئناف (الواو)، وتصدرت الأخرى بحرف الاستئناف (حتى)، والاستئناف واضح على الجملة الأولى، ولا شك في أن (الواو) ليست عاطفة.

وقد كان اسم (كاد) في الجملة الأولى (أمية) على حين كان في الجملة الثانية ضميرا مستترا، أما الخبر فقد اقترن بـ(أن) المصدرية، وهو قليل الورود حتى إن سيبويه قد حصره في الشعر؛ ولكن الشاهد النبوي يدلل على جوازه في النثر.

أفعال الشروع: وهي القسم الثاني من أفعال المقاربة، وقد جمعت مع أفعال المقاربة لتقاربهما في المعنى؛ فكلاهما يدل على مقاربة الفعل والأخذ فيه، وهي: (أخذ، وجعل، وقام، وطفق، وهب، وعلق، وطبق).

ولهذه الأفعال الأحكام الإعرابية نفسها التي للفعل الناقص، وقد وردت الجملة الاستئنافية التي فعلها ماض من أفعال الشروع في موضع واحد هو قوله صلى الله عليه وسلم: (وأحذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربا)، وقد جاء اسمه ضميرا مستترا تقديره (هو)، أما خبره فقد جاء فعلا مضارعا محذوفا يدل عليه المصدر بعده هذا إذا كنا لا نريد أن نخرج عن حال خبر هذه الأفعال، إذ إنه لا يكون إلا مضارعا، وقد يتصل هذا المضارع بـ(أن) المصدرية في خبر (كاد، وعسى). أما إذا جعلنا (ضربا) هو خبر (طفق) فيكون عندئذ الخبر قد جاء اسما، وهو لم يرد إلا في (عسى)، ويكون هذا الشاهد النبوي دليلا على وروده في خبر (طفق).

ولم ترد الجملة الفعلية الاستئنافية التي فعلها ماض من أفعال الشروع إلا في هذا الموضع، وبه نختتم الكلام على الجملة الاستئنافية، إذ لم ترد هذه الجملة بصيغة المضارعة في أفعال المقاربة.

الجملة المعترضة: وهي الجملة الواقعة بين شيئين يحتاج كل منهما إلى الآخر، غير معمولة لشيء من أجزاء الجملة الأصلية، وإنما يؤتى بها لإفادة الكلام تقوية، أو تحسينا، أو تنبيها، على حال، أو تسديدا.

وللجملة المعترضة مواضع مختلفة كثيرة، فهي تكون بين المبتدأ وخبره، والشرط وجوابه، والقسم وجوابه، والفعل ومفعوله… إلخ، ويجوز الاعتراض بأكثر من جملة واحدة، وقد يقع الاعتراض بين جملتين مستقلتين لفظا لا معنى؛ نحو قوله تعالى: {رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم}؛ إذ الجملتان المصدرتان بـ(إني)، وما بينهما اعتراض.

ويجوز اقتران جملة الاعتراض بـ(الواو، أو الفاء، أو التنفيس، أو لن …)، ولكنها لا تقترن بـ(ثم)، ويمكن الاستغناء عن جملة الاعتراض، ولكن هذا ليس مطردا، إذ إن من الجمل ما يفيد تنبيها على حال لا يمكن الاستغناء عنها، وذلك نحو قولنا: (أنت إن أطعت ربك من أصحاب الجنة)، فالجملة الشرطية معترضة بين المبتدأ وخبره ولكن لا يمكن الاستغناء عنها وفي كل حال هي لا محل لها من الإعراب، وقد تشابه الجملة المعترضة في بعض الأوجه الجملة الحالية، ولكن في الحقيقة إن بين الجملتين فروقا عدة؛ منها: أن المعترضة لا يمكن تأويلها بمفرد، وأنها قد تكون غير خبرية أيضا، وأنها تتصدر بدليل استقبال… إلخ.

ومن المعلوم أن الاعتراض يكون في الجمل الاسمية والفعلية، ولكن الذي يعنينا هو الاعتراض بالجملة الفعلية الخبرية إذ وردت هذه الجملة في (ستة وثلاثين) موضعا على وفق ما يأتي:

أولا: الجملة ذات الفعل الماضي التام المبني للمعلوم: ومن أمثلتها من الحديث النبوي الشريف في (صحيح البخاري): قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر، عوضته منهما الجنة)، (فإن استيقظ، فذكر الله، انحلت عقدة)، (إذا طلعت، ورآها الناس، آمنوا).

احتوت الجمل السابقة على جمل اعتراضية جاءت لفائدة ما في النص، ففي الجملة الأولى جاءت الجملة الاعتراضية (فصبر) مقترنة (بالفاء)، وفعلها ماض مبني للمعلوم لازم وهو (صبر)، وفاعله الضمير المستتر فيه العائد على (العبد).

ومن الملاحظ أن الجملة الاعتراضية أعطت النص توضيحا لا يمكن فيه الاستغناء عنها، وهذا يدعم ما ذكر سابقا، وهو: أن الجملة الاعتراضية لا يمكن الاستغناء عنها في كل مرة، ولا سيما من جهة المعنى، إذ إن الجملة الاعتراضية السابقة يمكن الاستغناء عنها من جهة اللفظ، ويكون إعراب الحديث صحيحا لاغبار عليه، ولكن المعنى يختل أيما اختلال، وهذا واضح، وهو يؤكد شرط الجملة الاعتراضية الذي ذكرناه آنفا، إذ قلنا: إنها تكون غير معمولة لشيء من أجزاء الجملة الأصلية.

أما الجملة الثانية فقد جاءت فيها الجملة الاعتراضية (فذكر الله) مقترنة (بالفاء)، وفعلها ماض تام مبني للمعلوم وهو (ذكر)، وفاعله مستتر فيه يعود على (النائم) -كما في سياق الحديث-، وقد تعدى الفعل بنفسه إلى مفعوله وهو لفظ الجلالة (الله)، وقد أفادت هذه الجملة توضيحا وتسديدا للجملة الأصلية على أنه يمكن الاستغناء عنها لفظا لامعنى -كما تقدم-، ومن المعلوم أن الجملة الاعتراضية لا محل لها من الإعراب، أما الجملة الثالثة فقد جاءت فيها الجملة الاعتراضية، (ورآها الناس)، وقد اقترنت بـ(الواو)، وفعلها ماض مبني للمعلوم تام، وهو (رأى) وفاعله (الناس)، وقد تعدى إلى مفعوله بنفسه وهو الضمير المتصل (الهاء) العائد على (الشمس) - كما في السياق- وقد تقدم المفعول به على الفاعل لأنه ضمير متصل لو تأخر لانفصل.

وقد أفادت الجملة الاعتراضية النص، توكيدا وتوضيحا، وهي لا محل لها من الإعراب، وقد وردت هذه الجملة في الأحاديث المرفوعة في (صحيح البخاري) في (تسعة وعشرين) موضعا.

وسوف نأتي على ذكر ما تبقى من هذا الموضوع الماتع في المقال الأخير من هذه السلسلة بإذن الله تعالى، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة