كيف نفهم اختلاف النسب بين الرؤى والنبوة

0 2221


لا شك أن المنامات ظاهرة كونية ولدت بولادة الجنس البشري وبروزه إلى حيز الوجود، واستمرت باستمراره، فلذلك كانت محط اهتمام عند جميع الحضارات والأمم،، مع ولعهم بها، وتأثرهم بمحتواها سلبا وإيجابا.

والحديث عن الرؤى والأحلام حديث طويل، وله متعلقات كثيرة، يأتي في مقدمها، ما جعله النبي –صلى الله عليه وسلم- من مكانة خاصة للرؤى الصادقة، فجعل بينها وبين النبوة رابطا ووجها للتشابه مأخوذ من دورها كمبشرات على حصول الخير: (لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراهـا المسلم، أو ترى له) رواه مسلم، ناهيك عن موافقتها للنبوة باعتبار أنها من الله –كما جاء صراحة في الحديث-، وفي كونها إنباء صادق من الباري، ليس فيها كذب، وقد نسب الحافظ ابن حجر لابن الجوزي قوله: "لما كانت النبوة تتضمن اطلاعا على أمور يظهر تحقيقها فيما بعد وقع تشبيه رؤيا المؤمن بها".

على أن الأحاديث التي بينت مقدار الرؤى من النبوة قد تبيانت في تحديد هذه النسبة تباينا عظيما، وأشهر هذه الروايات هي رواية الست والأربعين جزء، ونصها: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) رواها مسلم، وغيرها روايات أخرى، ما بين ستة وعشرين،وأربعين، وخمسة وأربعين،وسبعة وأربعين، وتسعة وأربعين، وسبعين.

ويرز ها هنا تساؤل مهم: ما الموقف الصحيح من هذه التعددية في النسبة؟ وكيف يمكن رفع التعارض الظاهري بينها؟

الواقع أن العلماء تجاه هذه النصوص قد سلكوا طرقا ثلاث: الجمع بين الروايات، وهو أشهرها، ومنهم من اختار الترجيح، ومنهم من توقف، ويبقى مسلك الجمع هو أوفق هذه الطرق وأصحها عند كثير من أهل العلم.

والأظهر أن هذا الاختلاف الحاصل بين الروايات في تحديد النسبة إنما هو باعتبارين اثنين:
-بحسب الرائي
-وبحسب الرؤيا

أما الأول، فالمقصود به التفاوت في مقامات الرائين ومدى صلاحهم والتزامهم، فكلما كان صاحب الرؤيا أقرب إلى الله تعالى كان أزكى مقاما، وأطهر نفسا، وأصدق رؤى، وبالتالي كان أقرب إلى النبوة والتي هي –مر معنا- البشارة ومطابقة الواقع.

ويعبر عن ذلك ابن عبدالبر بقوله: "اختلاف آثار هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا من النبوة ليس ذلك عندي باختلاف تضاد وتدافع والله أعلم؛ لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون الذي يراها من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين. فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد والله أعلم، فمن خلصت له نيته في عبادة ربه، ويقينه، وصدق حديثه، كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب".

وإلى هذا القول مال الطبري، وابن الجوزي، وأيده أبو عبدالله القرطبي قائلا: "هذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه".

وأما بحسب الرؤيا فإن واقع الحال أن الرؤى تتباين فيما بينها من حيث الوضوح والرمزية، فتنقسم إلى قسمين: جلية ظاهرة كمن رأى في المنام أنه يربح سيارة أو يتزوج امرأة، فيتحقق له ذلك في اليقظة تماما كما رآه، فهذا القسم لا يتطلب عناء في تأويل الرؤى لوضوح معانيها، أو كما عبر أهل العلم: "لا إغراب في تأويلها، ولا رمز في تفسيرها" ومثل هذا النوع من الرؤى اشتهر به النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وكان إرهاصا على نبوته، فقد قالت عائشة رضي الله عنها تصف ذلك: " أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح".

وأما النوع الثاني من الرؤى، فهي الرؤى التي فيها خفاء، وبها العديد من الرموز التي تحتاج إلى تفسير، كتفسير الثوب –طولا وقصرا- بالإيمان، ورؤية اللبن على الفطرة، وغير ذلك مما يعرفه المعبرون للرؤى، كفتكون الرؤى كأنها أمثال مضروبة، بخلاف النوع الأول الذي لا يحتاج إلى كثير عناء في تأويلها، فكلما كانت الرؤيا أكثر ظهورا كان نصيبها من النبوة أوفر، حتى تصبح كما قال المازري: " إن المنامات دلالات، والدلالات منها خفي، ومنها ما هو جلي، فما ذكر فيه السبعون أريد به أنه الخفي منها، وما ذكر فيه الستة والأربعون أريد به الجلي منها".

ويبقى أن نقول: إن الرؤى الصادقة إنما هي رسائل ربانية صادقة ومبشرات عظيمة يرجى منها الخير والمنفعة، ومن دلائل هذا الحرص ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان مما يقول لأصحابه: (من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها له) رواه مسلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة