قتل الإنسان.. ما أكفره

0 682

سعادة الإنسان في الدارين مرهونة تماما بإيمانه بالله وبقدر معرفته بربه، فكلما قوي إيمان العبد بربه، وزادت معرفته به كلما انفسح صدره وانشرح قلبه، وزادت سعادته.
والمحروم من حرم معرفة الله، والمخذول من لم يوفق لطاعته، والهالك من أعرض عنه وعن دينه وشريعته، وعن نبيه وسنته.

المنكرون لله أو الجاهلون به أشقى الناس عيشا، وأتعسهم نفسا، وأضيقهم صدرا، وأقلهم رضا بما هم فيه.

ولما كانت السعادة مرتبطة بمعرفة الله والإيمان به؛ كان من فضل الله تعالى على الخلق جميعا أن عرفهم بنفسه قبل أن يوجدهم في هذه الحياة، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وخالقهم، وأخذ عليهم الميثاق ألا يعبدوا غيره.
روى البخاري عن ابن عباس: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان- يعني عرفة - وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}(الأعراف: 172، 173}"رواه أحمد وصححه الألباني".

وكان من فضله أيضا أنه فطرهم على توحيده والإيمان به كما قال سبحانه: {فطرت الله التي فطر الناس عليها ۚ لا تبديل لخلق الله ۚذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين}
وقال تعالى في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا](رواه مسلم).. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه](رواه البخاري)

ثم أتم نعمته بأن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه؛ ليذكروهم بهذين الميثاقين، فمن اتبع المرسلين فقد وفى بجميع المواثيق، ومن أعرض وأبي فهو من المكذبين الهالكين.

آيات القرآن وآيات الكون:
من تمام نعمة الله على الخلق أنه بث في الكون آياته الباهرة، ودلائله الظاهرة على ربوبيته وإلهيته سبحانه، وحث عباده على السير في الأرض والنظر والتفكر في دلائل وجوده ووحدانيته، وأرشدهم إلى الاستدلال عليه بهذه الآيات البينات؛ فقد روى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها: [جاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب...} (صححه الألباني).

كتاب الله زاخر بما يفتح قلوب السامعين، وكونه الفسيح ممتلئ بما يدلهم على عظمة رب العالمين وكمال قدرته وعجيب صنعته.
فمن ذلك.. ما رواه الطبري عن أبي الضحى: لما نزلت {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} قال المشركون: إن كان هكذا فليأتنا بآية فأنزل الله عز وجل: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}.
أي: كل هذه آيات لمن أعطاه الله عقلا ينتفع به، أو فهما وسمعا وبصرا يفيده في الاعتبار، كما قال سبحانه: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.

ومن الآيات قوله سبحانه: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}(الذاريات)
يعني من دلائل وجوده وقدرته، وعظمته وإعجازه في صنعته:
هذه السماوات الفسيحة التي لا تكاد تعرف نهايتها، وما فيها من كواكب سيارات ونجوم نيرات، وشموس وأقمار، وأجرام ومجرات، بناها سبحانه بقوته وعظمته، وأمسكها بقهره وقدرته فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، ودبرها بحكمته فلا يصطدم بعضها ببعض بل هي في نظام بديع فلا ترى في خلقه من تفاوت ولا فطور.
وهي مع انفساحها العظيم كل يوم في اتساع كما أثبت العلم الحديث، هذا وهي سماء واحدة فكيف ببقية السبع الطباق. {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.....إلى قوله:  وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير}. {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا}.

{والأرض فرشناها فنعم الماهدون}، أي وهذه آية أخرى وعلامة أخرى.. فرغم أنه خلق الأرض يوم خلقها ودحاها يوم دحاها كروية، إلا نه امتن على عباده بأن جعلها موطأة كالفراش، منبسطة كالمهاد {ألم نجعل الأرض مهادا} وهيأها حتى تصلح لمعايش العباد، والسير في مناكبها، والضرب في أطنابها وجوانبها {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}.

{ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}، وهو مثل قوله: {وخلقناكم أزواجا} أي أصنافا وأنواعا..
قال ابن كثير وغيره: {ومن كل شيء خلقنا زوجين}: أي صنفين ونوعين مختلفين متقابلين ومتضادين: كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلمة، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والحر والبرد، والجن والإنس، والذكر والأنثى، والخير والشر، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والموت والحياة، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، والسعادة والشقاوة، وغير ذلك {لعلكم تذكرون} أي: لتعلموا أن الخالق واحد فرد لا شريك له ا. هـ. بمعناه.

ومن الآيات الباهرة قوله تبارك وتعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون} إلى قوله: {ومما لا يعلمون}(يس: ).
وهو مثل قوله سبحانه: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) أي أن الأرض تكون ميتة فينزل الله عليها المطر من السماء، فإذا بها تهتز وتدب فيها الحياة، وتنبت من كل أنواع الأزهار والثمار، وصنوف النباتات والأشجار، مختلفة في أشكالها وأحجامها وتراكيبها وألوانها وطعمها.. مع أنها نفس الأرض ونفس الماء ونفس الهواء.

كما قال سبحانه في سورة الأنعام: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ۗ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}، وفي سورة الرعد: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
فرغم أن الأرض واحدة والماء واحد، والهواء واحد، وكل الظروف متشابهة، إلا أنها يخرج منها الأخضر والأحمر، والصغير والكبير، والحلو والحامض، والرطب واليابس، والحار والبارد، والمفرد والمركب والصنوان، والمكشوف والمغطى في الأكمام.. فلو كان هذا من فعل الطبيعة لم يكن هذا التباين العظيم، ولا ذاك الاختلاف الكبير، وإنما كان التباين والاختلاف دلالة على قدرة القدير سبحانه
والأرض فيها عبرة للمـعتبر= تخبر عن صنع مليك مقتدر 
تسقى بمـاء واحد أشجارهـا=    وبقـــعة واحـدة قـرارهـا
والشمس والهواء ليس يختلف= وأكـلـها مختلف لا يأتلف
لو أن ذا مـن عمـل الطـبائـع= أو أنـه صنعة غير صانع
لم يختلف وكان شيئا واحدا= هل يشبه الأولاد إلا الوالدا
والشـمـس والهواء يا معاند= والماء والتراب شيء واحد
فما الذي أوجب ذا التفاضلا!= إلا حكيـم لم يـرده بـاطلا

آيات أخرى
ومن الآيات التي ساقها الله تدليلا على عظمته وكمال قدرته، قوله سبحانه في سورة يس: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (٣٧) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (٣٨) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (٣٩) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (٤٠) وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (٤١) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (٤٢) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (٤٣) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين}.(يس: 33ـ44).

وقوله تبارك وتعالى في سورة الروم: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 20-25].

أعجب العجب
وبعد كل هذه الأدلة في النفس والكون.. أعجب العجب أن يأتي بعد كل ذلك من ينكر وجود الله، ومن يقول: "لا إله والحياة مادة " ، مع أن كل شيء في هذا الوجود يدحض ذلك ويرده، ويدلل على وجود الخالق العظيم:
تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عــيون من لجــين شاخصـات ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضـب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليــس لـه شـريــك

ولا يملك المسلم بعد كل هذا إلا أن يقول ما قاله ابن المعتز:
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وللــه في كـــل تحــريكــة ... وفي كـل تسكينة شـاهد
وفي كــل شـيء لـه آيــــة ... تــدل على أنــه واحـــد
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، واهد قلوبنا، وأنر بصائرنا، وثبت على صراطك المستقيم أقدامنا.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة