الطريق إلى قلوب الناس

0 2130

روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: [بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي. فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزرموه. دعوه. فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر. إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه] .

وفيه أيضا عن معاوية بن الحكم السلمي: "بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم. فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه. فوالله! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: [إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن].

وعن أبي أمامة رضي الله عنه:[ أن فتى من قريش أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مه مه. فقال: ادنه. فدنا منه قريبا فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم...

وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقرره (أتحبه لأختك، لعمتك، لخالتك؟) وهو يقول: لا والله يارسول الله جعلني الله فداك، لا أرضاه لكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ولا الناس يرضونه.. ثم مسح النبي على صدره، ودعا له فقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه.
هذه اليد الحانية وتلك الكلمات الطيبة التي كانت تخرج من النبي صلى الله عليه وسلم أصابت أبا محذورة، يقول في معنى حديثه: "كنا صغارا والنبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، أنا وبعض أترابي، وكنا نرفع أصواتنا بالأذان نشوش على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعنا، فقال: إن فيهم غلاما حسن الصوت، فدعا بنا ثم أمرنا أن نؤذن، وكنت آخرهم فصرفهم ثم لقنني الأذان، ثم مسح صدري بيده وقال: اذهب فأذن لأهل مكة".

مغيث وبريرة
أعجب ما يمكن أن تقرأه عن النبي صلى الله عليه وسلم  ما تقرأه من قصته مع مغيث وبريرة، وقد رواها البخاري عن ابن عباس: ومفادها: أن مغيثا كان عبدا أسودا، وكانت بريرة زوجته أمة، فانفصلت عنه، وكان مغيث يعشقها ويحبها حبا جما، وكانت هي تبغضه بقدر حبه لها، فكان يطوف خلفها في الطرقات يبكي، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: [ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغض بريرة مغيثا]؟!!! ثم رق له لما رأى من حاله ووجده، فشفع له عندها، وكانت الشفاعة من كريم أخلاقه، وهو القائل: [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء]. فشفع لهذا العبد المسكين عند تلك الأمة، وما منعه أنه سيد الخلق أن يفعل ذلك.. فقال لبريرة: لو راجعتيه! فقالت: يارسول الله أتأمرني؟ قال: لا.. إنما أنا شافع. فقالت: لا حاجة لي فيه.
فما سخط عليها، ولا قال لها كيف تردين شفاعتي وأنا رسول الله؟ وإنما هو حقها تركه صلى الله عليه وسلم لها.

الطفيل بن عمرو: كلكم تعرفون قصته، ذاك الذي وضع الكرسف في أذنه حتى لا يسمع لرسول الله، فأبي الله إلا أن يسمعه كلامه، فأسلم. ثم علمه النبي وأرسله يدعو قومه.. فأبطؤوا عليه، فرجع بعد زمن يشكوهم لرسول الله، ويقول: إن دوسا عصت وأبت؛ فادع الله عليها.
يقول أبو هريرة وهو دوسي، وهو يروي الحديث: فرفع النبي يديه إلى السماء فقلت الآن يدعو على دوس فتهلك. فإذا به عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم اهد دوسا وائت بهم، اللهم اهد دوسا وائت بهم.

لا أدري ماذا أذكر من مواقفه وماذا أدع، لكن لو ذهبنا لنكمل لطال بنا الحديث، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

هذه كانت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما يروى عنه [إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فيذهب معها حيث شاءت، حتى يقضي لها حاجتها، ويحل لها مشكلتها.

وحتى تقترب الصورة تخيل أنك بين جلسائك أو ضيوفك يوما، وإذا بالخادمة تدخل عليك وتأخذ بيدك لتحل مشكلة ما في البيت، أو مشكلة خاصة لها... ماذا سيكون رد فعلك؟

كأني أسمعك تقول: هي تستحق كل ما يجري لها؛ فقد أساءت الأدب.
وأنا أقول لك: هذا هو المقصد الذي كان يريد أن يعلمنا إياه رسولنا المحبب المكرم، كيف نصنع مع من أساء الأدب.

لقد جاءه الأعرابي فجذبه من ثوبه حتى أثرت حاشية الثوب في رقبته، ويقول: يا محمد أعطني من مال الله، فإنك لست تعطيني من مالك ولا مال أبيك.. فماذا صنع؟
تبسم عليه الصلاة والسلام، وأمر له بعطاء.
والله ما تكلم بكلمة سيئة؛ لأنه لم يكن طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا متفحشا، ولا حمل في قلبه على أحد؛ لأنه كان طاهر القلب نقي السريرة، ولا منعه أذى الناس أن يقدم لهم رفده ويعمهم كرمه وخيره، لأنه كان كريم الخلق حسن السجايا [إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق]، وهو القائل: [ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها]، والقائل: [والله لو كان لي عدد هذه العضاة إبلا ونعما لأعطيتكم إياه ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا].

بهذه الأخلاق ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاب أصحابه، وملأ حبه قلوبهم؛ حتى كانوا يحبونه أكثر من أنفسهم وأهليهم وآبائهم وأمهاتهم، ومن أموالهم وأولادهم وأزواجهم، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يموت فداء له، ليس فداء نفسه، لا بل فداء له من أدنى أذى يصيبه ولو شوكة تؤذيه.
أسرت قريش مسلما في غزوة .. فغدا بلا وجل إلى السياف
سألوه هـل يرضيك أنك ســالم .. ولك النبي فدا من الإتلاف
فأجاب كلا لا سلمت من الردى.ويصاب أنف محمد برعاف

الطريق إلى القلوب:
إذا أردتم أن تبلغوا الإسلام الحقيقي في جميع البلاد، أو أن تملكوا قلوب كل العباد، فليس لكم إلا أن تسيروا على سير رسول الله ومنهجه.

وإذا أردتم أن يفتح الناس لكم قلوبهم فلن يكون هذا بجاه ولا بمال ولا بمنصب، ولا بأي شيء، إلا بحسن الخلق.. فإن من حسن خلقه كان حبيبا إلى الله، حبيبا إلى رسوله، حبيبا إلى الناس، قريبا من الله، قريبا من رسوله، قريبا من الناس، ومن ساء خلقه فهو بغيض إلى الله، بغيض إلى رسوله، بغيض إلى الناس، بعيد من الله، بعيد من رسوله، بعيد من الناس [إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة مساوئكم أخلاقا]
وفي الحديث أيضا: [إن من أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون ،  وإن من أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، والملتمسون للبرآء العيب].

لأتمم مكارم الأخلاق
من ظن أن حسن الخلق أمر زائد في الدين، فإنه لم يعرف قدر الخلق، ولم يفقه معنى الدين؛ فإن الإسلام دين يبنى في الأصل على الأخلاق، [إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق].

دين الإسلام دين شامل، وشرع كامل تجتمع فيه العقائد والعبادات والمعاملات كلها مع الأخلاق لتكون في النهاية منظومة شاملة كاملة ترقى بها البلاد ويسعد بها العباد، ولا يجوز أبدا ولا يمكن أن يعيش أناس في أي مجتمع بغير دين أو بدون أخلاق.
فمجتمع بغير دين مجتمع مشرك كافر، ومجتمع بلا أخلاق مجتمع فاسق فاجر.

ودين الله يقوم على أمرين:
حسن خلق مع الله، وحسن خلق مع المخلوقين، فمن أفسد ما بينه وبين الله فقد أضاع دينه، {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}(المائدة:72).

ومن أفسد ما بينه وبين الخلق فقد أضاع دينه ودنياه وآخرته [ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة تصوم النهار وتقوم الليل ولكنها تؤذي جيرانها، قال: هي من أهل النار].

فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت]. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة