حديث الأمنيات

0 1438
  • اسم الكاتب:الشيخ د.إبراهيم بن صالح العجلان

  • التصنيف:أحوال القلوب

للمرء مع نفسه أسرار وأمنيات، وتطلع وطموحات، فما من عبد إلا وقد طاف في هاجسه ألوان من الأماني، تختلف صورها باختلاف أهلها وأحوالهم.

فالمريض يتمنى الصحة، والفقير يتمنى الغنى، والطالب يطمح للشهادة والوظيفة بعدها، هذا يتطلع للمسكن الواسع، وذاك يمني نفسه بالمركب الفاخر، وآخر تمتد عينه للمنصب العالي.

أماني وأماني لا تنقطع عن أهلها، وهم فيها ما بين مستقل ومستكثر؛ مستقل لا يقنع، ومستكثر لا يشبع، فـ"لو كان لابن آدم واد من نخل، لتمنى مثله، ثم مثله، حتى يتمنى أودية، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" (رواه الإمام أحمد، وصححه ابن حبان).

فتعالوا إخوة الإيمان إلى حديث الأماني والأمنيات، وأحوالها وأحكامها، وخبر سلفنا معها، فالحديث عنها هو في الحقيقة حديث عن الحياة، حديث عن واقع ليس بخيال، فالأماني جزء من عيش العبد في دنياه، وكده وكدحه، ولأهمية هذا الموضوع أفرده علماؤنا بالتأليف، واقرؤوا إن شئتم كتاب التمني في صحيح البخاري.

فبالأماني تتسلى النفوس، وتتحفز الهمم، ويبنى التفاؤل، ويصنع الأمل.

أعلل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

إخوة الإيمان: القلب مستودع الأماني، فبسلامته أو مرضه تصلح الأماني أو تفسد؛ وفي الحديث: "والقلب يهوى ويتمنى".

الأماني سلاح ذو حدين، فإن تمنى العبد الخير والمعروف، فهي حسنات صالحات، وإن لم تعملها جوارحه، وإن تمنى الإثم والسوء فهي أوزار في صحيفته وشقاء لم يعمله.

ويدل على هذا وذاك ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، عن أبي كبشة الأنماري: "إنما الدنيا لأربعة نفر، وذكر منهم: وعبد لم يرزقه الله مالا، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد لم يرزقه الله مالا، فيقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان" أي: في تضييع ماله وصرفه في وجوه الحرام، قال: "فوزرهما سواء".

وإذا تأكد هذا فإنه يستحب للعبد أن يكثر من تمني الصالحات، فكرم ربه خير وأوسع، وفي الحديث: "إذا تمنى أحدكم، فليستكثر، فإنما يسأل ربه" ( رواه عبد بن حميد، وصححه ابن حبان والألباني).

وحين نورد القلوب مواعظ القرآن والسنة، نرى آيات الله تحدثنا عن أماني أهل الشقاء وأهل السعادة.

نقترب من مشهد الآخرة، لنرى صورا من الأماني متباينة، فإذا رأى كل إنسان عمله وما قدمت يداه، قال الكافر: {يا ليتني كنت ترابا}.

وصنف من أهل الشقاء يتحسر على علائق لم تبن على مرضاة الله، فينادي: {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} [الفرقان: 28].

وحين يرى أهل الشقاء العذاب رأي العين يتمنون: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} [الأنعام: 27].

حتى إذا دخلوا دار الشقاء والبؤس والنكال، وذاقوا مس سقر، تمنوا حينها: {يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} [الأحزاب: 66]، إنها زفرات وحسرات وأمنيات، ولكن لات حين مندم.

وفي مشهد آخر من مشاهد الآخرة، نرى أمنيات أهل السعادة، فأقل أهل السعادة منزلة هو آخر أهل الجنة دخولا، يدخل الجنة وقد انفهقت له وتزينت، فيقول له ربه: تمن، فيتمنى العبد ويتمنى، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله له: "ذلك لك وعشرة أمثاله معه".

وصنف من أهل السعادة باعوا أنفسهم لله، فودعوا دنياهم شهادة في سبيل الله، فيرون من الكرامة وحسن الحفاوة من ملائكة الرحمن ما يجعلهم يتمنون ويتمنون، يتمنون ماذا؟ يتمنون أن ترد أرواحهم في أجسادهم، حتى يقتلوا في سبيل الله مرة أخرى.

أمنيات محظورة
وأمنيات محظورة نهى عنها الشرع، فواجب قفل القلوب دونها؛ حتى لا تتسرب إلى خلجات الصدور.

من هذه الأماني: تمني الموت، فهذا مما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحييني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي" متفق عليه.

ومن الأماني المنهي عنها: تمني محاربة الأعداء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا" متفق عليه.

تمنى زوال النعمة عن الغير صفة إبليسية، ذمها القرآن، ونهى عنها، وأخبر أنها من خصال يهود: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [النساء: 54]، {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109].

أمنيات مستحبة
 وأمنيات أخرى أثنى عليها الشرع، فامتثالها والسعي لبلوغها من المستحبات المؤكدة.

من هذه الأمنيات: تمني الشهادة في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: "لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل" رواه البخاري.

ومن الأمنيات المستحبة: أن يتمنى المرء أن يكون من أهل القرآن ليحيا به آناء الليل والنهار، أو يكون من أهل الثراء، ليبذل نعمة المال في وجوه البر والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" متفق عليه.

ومن الأماني المشروعة: أن يتمنى المسلم الغنى فرارا من الفقر، فمع الغنى تكون الصدقة، ويكون البذل، وتسل سخائم الشح من النفوس، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أعظم أجرا ؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" رواه البخاري.

ومن الأماني المستحبة: أن يتمنى العبد هداية الناس وحصول الخير لهم، لقد قص علينا القرآن خبر ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ناصحا لقومه، مشفقا عليهم، يناديهم: {يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} [يس: 21]، فلما قتله قومه وأكرمه ربه بالجنة، قال متمنيا حتى بعد موته: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} [يس: 27].

أسباب بلوغ المنى
هناك أسباب تعين على بلوغ الأماني، وقد جعل الله لكل شيء سببا، سواء أكانت هذه الأمنيات دنيوية محضة، أم مما يراد به ثواب الآخرة.

فمن المعالم المعينة على إدراك الأمنيات: أن يكون المرء جادا في تحقيق ما تمنى، عازما للوصول إلى هدفه، أما إذا عدم الجد والصدق والعزم فما هذه الأماني إلا خواطر بطالين، وقديما قيل: "الأماني رؤوس أموال المفاليس"، ومع الصدق والعزيمة لا بد من الصبر والإصرار والثبات على الطريق حتى يبلغ المرء مناه.

كما قال الشاعر العربي:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى *** فما انقادت الآمال إلا لصابر

وإذا تحلى العبد بالجد والعزم، وتدثر بالصبر والإصرار، وصل بعد توفيق الله إلى مبتغاه.

وإذا وصل إلى مناه، فليحمد الله، وإن كانت الأخرى فليحمد الله أيضا؛ فتدبير الله أصلح، وقضاء الله خير.

يريد المرء أن يعطى مناه *** ويأبى الله إلا ما أرادا
وحين نقلب سير سلفنا وصالحي أمتنا، نراهم قد تمنوا وحدثوا غيرهم بما يدور في نفوسهم من الطموحات والتطلعات، فهاكم لوحات وضاءة في أخبارهم مع الأماني.

هذا نبينا وقدوتنا - صلى الله عليه وسلم - نقلت لنا دواوين السنة أنه تمنى أمنيات عدة، تمنى لو أن له مثل أحد ذهبا، فلا يأتي عليه ثلاث ليال إلا وقد أنفقه في سبيل الله.

وتمنى هداية قومه، حتى قال له ربه: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8].

وتمنى أن يكون أكثر الناس تبعا يوم القيامة.

وتمنى رؤية إخوانه؛ "وددت أني رأيت إخواني الذين لم يأتوا بعد".

وتمنى أن تكون أمته شطر أهل الجنة.

نماذج من أمنيات الصحابة
أما صحابته - رضوان الله عليهم - فقد كانت لهم أمنيات وأي أمنيات! هذا ربيعة بن كعب الأسلمي يتمنى مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".

وهذا عبدالله بن عمرو بن العاص يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليبشر فقراء المهاجرين بما يسر وجوههم، فإنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما، قال عبدالله: فلقد رأيت ألوانهم أسفرت، حتى تمنيت أن أكون معهم.

وهذا أسامة بن زيد يعاتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قتل رجلا وقد قال: لا إله إلا الله، فجعل أسامة يقول: إنما قالها متعوذا من السيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"، قال أسامة: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.

أما فاروق الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد كان كثير التمني؛ حتى إنه ليسمع أصحابه بعض أمنياته، تمنى أن يغني أرامل أهل العراق، فلا يحتجن لما في أيدي الناس، وهو في المدينة!.

واجتمع بأصحابه يوما فقال لهم: تمنوا؟ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله، فقال عمر: تمنوا؟ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة لؤلؤا وجوهرا أنفقه في سبيل الله، فقال عمر: ولكني أتمنى رجالا ملء هذه الدار مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاوية بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، أستعملهم في طاعة الله.

وقال لأصحابه في خلافته: وددت أني في الجنة؛ حيث أرى أبا بكر، ويوم طعن - رضي الله عنه - توافد إليه الناس يعودونه، ويثنون عليه خيرا، فتمنى أن ينجو منها كفافا، لا له ولا عليه، وتمنى حين أدركه أجله أن يدفن مع صاحبه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر.

وداخل الحجر يجتمع صحابيان وتابعيان عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير، فقالوا تمنوا؟ قال عبدالله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة أخوه: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال الأخ الثالث مصعب: وأما أنا فأتمنى إمارة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبدالله بن عمر: وأما أنا فأتمنى مغفرة الله.

وبصدق عزيمة هؤلاء وعلو همتهم، تقلد عبدالله بن الزبير الخلافة، وأخذ عن عروة العلم حتى عد في الفقهاء السبعة، وتولى مصعب إمارة العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين، وبقيت أمنية عبدالله بن عمر ينتظرها عند ربه تعالى.

أمنيات الأموات
ومن أمنيات الأحياء إلى أماني الأموات، نعم يتمنى الأموات أمنيات، ولكنها أمنيات منسية ورغبات غير مقضية.

لنستمع إلى شيء من أمنيات من استقبلوا الدار الآخرة، وردوا إلى الله مولاهم الحق.

لقد أخبرنا ربنا أن الأموات يتمنون أماني، فأول ما يتمناه الموتى هو الرجوع إلى الدنيا، لا ليستكثروا منها، ولا ليزاحموا عليها، وإنما ليعملوا فيها صالحا:{حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت...} [المؤمنون: 99- 100].

ومن أعظم الصالحات التي يتمناها الموتى هذه الصلاة، التي طالما قصرنا في أدائها، وفرطنا كثيرا في نوافلها.

مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبر، فسأل عن صاحب هذا القبر، قالوا: فلان، فقال: "ركعتان خفيفتان مما تحقرون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم".

ومما يتمناه الأموات من العمل الصالح: الصدقة، تلك الحسنة التي وعد الله بمضاعفتها أضعافا كثيرة؛ يقول سبحانه وتعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} [المنافقون: 10].

فيا من يملك نعمة الحياة، هذا خبر من سبقك لكأس المنون، فما خبرك أنت هنا؟

ها أنت في زمن الإمهال، ودار العمل التي يتمناها غيرك، فالغنيمة الغنيمة، اغتنم صحتك وفراغك فيما تبنيه غدا هناك.

يا من يملك نعمة الحياة، استكثر من الحسنات، وباعد من السيئات، وكفر بالتوبة ما مضى من الخطيئات.

يا من يملك نعمة الحياة، زر المقابر، وتأمل ضيق الملاحد، واغف إغفاءة وتخيل أنك أنت أنت المجندل في هذه الحفرة، وقد أغلق عليك باللبن، وانهال عليك التراب، وفارقت الأهل والأحباب، فأصبحت رهين عملك، تتمنى ركعة أو سجدة أو صدقة أو تسبيحة، ولكن هيهات هيهات، رفعت الأعمال، وبقي البعث والعرض والحساب!.

فالأمر جد خطير، والشأن والله عظيم، ولا دار ثالثة إنما جنة ورحمة، أو نار تلظى، وحسرة ليس فوقها ندم وحسرة.

اللهم وفقنا للاستعداد ليوم الرحيل، ولا تجعلنا من الغافلين، ولا عند فراق دنيانا من النادمين يا أكرم الأكرمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه اجمعين.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة