أجهزة التواصل الاجتماعي..المجاهرة بالمعاصي

0 1044

من توفيق اللـه -تعالى- للعبد أن يفتح له أبواب الخير، وييسر له طرق البر، ويبارك له في عمره فتجده قد استوعبه بأعمال صالحة... ومن خذلان اللـه -تعالى- للعبد أن يسلطه على نفسه فلا يجد بابا من الإثم إلا ولجه، ولا طريقا للشر إلا سلكه، يمضي عمره وهو يلهث وراء متع الدنيا يطلب السعادة في غير مظانها، ويسلك طريقا ليس طريقها.

 وفي زمننا هذا ابتلي الناس بوسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، فإما كانت خيرا لمستخدمها، وإما عادت عليه بالشر والخسران؛ فمن الناس من يستخدمها فيما ينفعه؛ فيصل بها رحما، ويعلم جاهلا، وينشر معروفا، وينكر منكرا، ويدعو إلى سنة مهجورة، ويشيع فائدة مجهولة، فرسائله وتغريداته لا تخلو من فائدة.

 ومن الناس من يستعملها فيما يضره ولا ينفعه، فيروج إشاعة، أو يشيع فاحشة، أو يدعو إلى منكر، أو يرمي بريئا بما يشينه، أو ينتهك خصوصيته، فيصور ما يعيبه، فصار كالراصد على عورات الناس بلا فائدة سوى التفكه والضحك، ومن تتبع عورات الناس تتبع الله -تعالى- عورته ففضحه في بيته.

 ومن أعظم الآثام التي تجترح هذه الأيام من وسائل التواصل الاجتماعي: المجاهرة بالذنوب، وإشاعة الفواحش؛ فالمجاهرون يتخفون بأسماء مستعارة، ويظنون أنهم إن استخفوا عن الناس يستخفون عن اللـه -تعالى- وعن ملائكته الكرام الراصدين لأقوالهم وأفعالهم {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} [النساء: 108].

 والمجاهرة بالإثم أشنع من فعله، بل لو جاهر بذنب ادعى أنه فعله وهو لم يفعله لكان حريا أن تكون مجاهرته تلك أعظم من مجرد ارتكاب الذنب لو ارتكبه؛ لأنه كذب، والكذب كبيرة من الكبائر، وكذبه كان في شيء قبيح؛ ولأن المعنى من منع المجاهرة بالذنب عدم الاستخفاف به، والكاذب المجاهر قد استخف بالذنب ولو لم يفعله؛ ولما في مجاهرته بالذنب -ولو لم يفعله- من تجريء للناس على فعل الذنب، ودعوتهم إليه، وتكثير سواد أصحاب المعاصي، وتقوية أهل المنكرات.

 وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللـه صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر اللـه عنه" (متفق عليه).

 ورفع العافية عن أهل المجاهرة يشمل رفعها في الدنيا وفي الآخرة، فحري بمن جاهر بالمنكر، ودعا إليه، وهو في مأمن من أن يعرف شخصه بسبب استتاره باسم مستعار حري أن يفضح في الدنيا، بأن يخطئ خطئا يدل على شخصه وهو لا يدري، فيعرفه الناس وهو لا يريدهم أن يعرفوه، وقد وقع ذلك كثيرا لأناس تمنوا أنهم ماتوا ولم يفضحوا، نسأل الله -تعالى- الستر والعافية. أو يتسلط عليه بعض من يشاركه في إثمه حتى يخترقوا حسابه، ويظهروا للناس خزيه.

 ومن رفع العافية عن المجاهر في الدنيا: أن يسلب قلبه العافية فينسلخ منه استقباح المعاصي، فتصير له عادة، فينحط في المجاهرة إلى أن يبلغ دركا لا يستقبح فيه من نفسه رؤية الناس له وهو في فحشه، ولا يأبه بكلامهم فيه، وهذا الدرك عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه، وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملت كذا وكذا، ونشرت كذا وكذا، وأنا صاحب الحساب الفلاني، والموقع الفلاني، يخبر الناس بموبقاته. وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب.

 ومن رفع العافية عن المجاهر في الآخرة: ما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول اللـه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته..." (رواه البخاري).

 والمجاهر يفوته هذا الستر والعفو في الآخرة؛ لأنه لم يستتر بستر اللـه -تعالى- في الدنيا، وفضح نفسه، وجاهر بإثمه، ودعا الناس إليه.

 قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: ستر اللـه مستلزم لستر المؤمن على نفسه؛ فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره، ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من الله عليه بستره إياه.

 وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: المستخفي بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثما من المخبر المحدث للناس به؛ فهذا بعيد من عافية اللـه -تعالى- وعفوه.

 هذا؛ ووسائل التواصل الاجتماعي وسيلة لإشاعة الفواحش، ونقلها بين الناس، فيصور الصورة أو المقطع فيرسله إلى غيره فلا يلبث إلا قليلا حتى يصل إلى ملايين الناس، ومرسله لا يدرك حجم جنايته على نفسه، ويجهل كمية الآثام التي يكتسبها بهذه الفعلة الشنيعة. وفي إشاعة الفواحش في الناس وعيد شديد {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} [النور: 19].

 هذا الوعيد الشديد إذا أحبوا إشاعة الفاحشة وإذاعتها في الناس، فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها؟!

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل؛ فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضي عمل قوم حشر معهم كما حشرت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط؛ فإن ذلك لا يقع من المرأة، لكنها لما رضيت فعلهم عمها العذاب معهم اهـ.

 إن عظم البلاء من اللـه -تعالى- لا بد أن يقابله الإنسان بقدر عظيم من الصبر والمجاهدة، ولما سهل في هذا الزمن وصول الفواحش إلى أجهزة الناس في بيوتهم ومكاتبهم بل وجيوبهم، ويبتليهم بعض أقرانهم بإرسالها إليهم، سواء كان ذلك في صورة أو فيلم أو كلام مقروء أو مسموع؛ كان لا بد من مجاهدة النفس، والاحتساب على الغير في ذلك؛ لئلا تلين النفس مع كثرة ما يرد عليها من ذلك.

 ومجاهدة النفس تكون برفض كل شيء محرم، ومن عجز عن ذلك فيهجر شبكات التواصل الاجتماعي، ويلغي حساباته فيها؛ فإن السلامة تقتضي ذلك.

 وأما الاحتساب على الغير: فبالإنكار على من يرسلون له تلك المواد المحرمة، ومناصحتهم، وزجرهم عن فعل ذلك معه أو مع غيره، فإن لم يستجيبوا حظر حساباتهم؛ ليتقي شرهم، ويجانب إثمهم، ويثبت إنكاره عليهم.

 وعلى من هم شركاء في مجموعة من مجموعات التواصل الاجتماعي أن يتواصوا بالحق فيما بينهم، ويتعاونوا على البر والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان؛ فإنهم مسئولون عما يصل إليهم وما يصدر عنهم {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]، {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 - 12].

أيها المسلمون: وسائل التواصل الاجتماعي نعمة من اللـه -تعالى- لبث الخير، ونصح الناس، والدعوة إلى اللـه -تعالى-، والتواصل مع القرابة والجيران والمتحابين في اللـه -تعالى-. وهي وسيلة لتواصل الناس مع العلماء والدعاة وطلاب العلم لاستفتائهم واستشارتهم، وفيها من المنافع شيء كثير، ولكن إساءة استخدامها تعود بالدمار على الإنسان. وضحايا ذلك في الغالب هم أبناء المسلمين وبناتهم؛ لسهولة الوصول إليهم، ومن ثم اصطيادهم؛ ولذا فإنه يجب على الآباء والأمهات تعاهد أبنائهم وبناتهم بالنصيحة والبيان، وتقوية الإيمان في نفوسهم، وزرع مراقبة اللـه -تعالى- في قلوبهم، وتحذيرهم من الفساد والمفسدين، ومن التهاون بالمحرمات؛ فإن مراقبتهم لأنفسهم أنجع من مراقبة والديهم لهم، وأعظم أثرا عليهم..

 بل إن مراقبة والديهم لهم شبه مستحيلة مع ما تحدثه في نفوسهم من الجفوة عن آبائهم وأمهاتهم؛ لعدم ثقتهم فيهم، ولا خيار للمربين إلا المكاشفة والصراحة مع من يربون؛ فإن سيل الإثم عظيم متلاطم لا يكاد يترك مجتمعا إلا اجتاحه، والحفظ من اللـه -تعالى-، والله حفيظ عليم.

 ومن ابتلي بمحرمات التواصل الاجتماعي، ولا يقدر على نزع نفسه منها فليقصر إثمها على نفسه ولا يصدره لغيره، وليستتر بستر اللـه -تعالى- حين ستر عن الناس ذنبه، ولم يظهر عيبه، وليكثر من مكفرات الذنوب من صدقة وصلاة واستغفار وغيرها، مع الإلحاح على اللـه -تعالى- بالدعاء أن يعتقه من معصيته؛ فإنه إن صدق مع اللـه -تعالى-، وجاهد نفسه رزقه الله -تعالى- توبة نصوحا منها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها؛ فمن ألم، فليستتر بستر اللـه وليتب إلى اللـه" (رواه الحاكم وصححه).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة