البكاؤون في غزوة تبوك

0 1303

من الغزوات الهامة في السيرة النبوية غزوة تبوك، وقد سميت بذلك نسبة إلى عين ماء يقال لها تبوك، وللغزوة اسم آخر معروفة به وهو: غزوة العسرة، وذلك لصعوبة وشدة الظروف التي وقعت فيها أحداثها، من شدة الحر وبعد المكان، وقلة المال والدواب، وقد ورد هذا الاسم ـ العسرة ـ في القرآن الكريم في سورة التوبة، في قول الله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم}(التوبة: 117). وعنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة). قال ابن حجر في "فتح الباري": "وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها وكانت مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فضحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، فضلا عن أخبار المسير والحصار والمشقة التي كانت فيها، والأحداث التي صاحبتها".

ولما كانت هذه الغزوة في وقت فقر وعسرة، حث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين فيها على البذل والإنفاق فقال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه) رواه البخاري. وقد استجاب الصحابة رضوان الله عليهم ـ وعلى رأسهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وأبو بكر وغيرهم ـ لنداء النبي صلى الله عليه وسلم، وتسابقوا كعادتهم في الإنفاق، وضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء.

البكاؤون :

مع كثرة البذل والإنفاق الذي بذله الصحابة رضوان الله عليهم في تجهيز جيش تبوك (العسرة)، إلا أنه بقي بعضهم لم يخرج، أقعدهم المرض أو الفقر، فلم يخرجوا للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحزنوا لذلك حزنا شديدا، وبلغ الأمر بهم إلى حد البكاء أسفا وحزنا على ما فاتهم من شرف الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحرجا من القعود وعدم الخروج، واختلفت مصادر السيرة النبوية في عدد وتسمية هؤلاء البكائين، وقيل: أنهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، قال ابن حجر: "وقد حكى كعب بن مالك أنه لم يبق بالمدينة إلا المنافقون وأهل الأعذار من الضعفاء". وقال ابن القيم في زاد المعاد: "وجاء البكاؤون وهم سبعة، يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}(التوبة: 92)".

وقد عذر الله عز وجل الذين تخلفوا عن الخروج للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بسبب فقرهم أو ضعفهم ومرضهم، حيث نزل فيهم قوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}(التوبة:91ـ92). قال ابن كثير: "بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعرج ونحوهما، ولهذا بدأ به. ومنها ما هو عارض بسبب مرض عن له في بدنه، شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره لا يقدر على التجهيز للحرب، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون في حالهم هذا، ولهذا قال: {ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم}(التوبة:91)". وقال القرطبي: "الآية أصل في سقوط التكاليف عن العاجز، من جهة القوة أو العجز من جهة المال.. قوله تعالى:" {ليس على الضعفاء} أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شي سقط عنه.. ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}(البقرة:286)".

ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك واقترب من المدينة المنورة بشر هؤلاء المعذورين الذين حسنت وخلصت نياتهم، ولم يستطيعوا الخروج للجهاد بسبب الفقر أو المرض، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر) رواه البخاري.
قال النووي: "وفي هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب  نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه، والله أعلم"،
وقال الكرماني في شرح صحيح البخاري: " (كانوا معكم) أي في حكم النية والثواب، وهذا دليل على أن المعذور له ثواب الفعل إذا تركه للعذر".
وقال الطيبي: "(إلا شركوكم في الأجر) يدل هذا علي أن القاعدين من الأضراء يشاركون المجاهدين في الأجر، ولا يدل علي استوائهما فيه، والدال علي نفي الاستواء قوله تعالي: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}(النساء:95)". قال السعدي في تفسيره: "لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله، ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر. وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر".

لقد ملأ حب الجهاد في سبيل الله قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، وموقف وحال الصحابة الذين تخلفوا عن الخروج للجهاد في غزوة تبوك ـ بسبب فقرهم أو مرضهم وضعفهم ـ يعطي صورة واضحة وبليغة عن مدى حبهم ورغبتهم في الجهاد، وما كان يشعر به من حالت الظروف بينه وبين القيام بواجباته نحو نصرة الإسلام ورفع رايته والجهاد في سبيل الله ..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة