أعظم أمنية

0 1185

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إخوة الإيمان: الأمنية والأماني هاجس لا ينفك عن النفس البشرية، فما من عبد إلا وقد طاف في خياله ألوان من الأماني، وكما ينشد المرء في دنياه لطموحات، كذلك يتطلع في أخراه لأمنيات، ومن أعظم الأماني الأخروية التي تتوق لها الأرواح، وتطير لها القلوب: مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم.
تلك الأمنية التي تصغر دونها كل أمنية، والغاية التي تتضاءل بعدها كل غاية؛ مرافقة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، نهاية تمتد نحوها الأعناق، وعيش تهفو له القلوب والأشواق.

إنها ليست مرافقة وزير أو أمير أو ملك من الملوك، إنها مرافقة لا يعكرها إذلال، ولا يكدرها زوال، بل هي مرافقة سرمدية دائمة في جنات ونهر، عند مليك مقتدر، فيا سعادة من حازها! ويا هناء من نالها!.
ذو حظ عظيم، من كان رفيقا للنبي الكريم في جنات النعيم.ذو حظ عظيم، من كان جليسه صفي الله وحبيبه، ونبيه وخليله.
ذو حظ عظيم، من كان نديمه سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من تفتح له أبواب الجنة.
مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة أمنية دعا بها الصالحون، وسعى لها العاملون.
كم ترقرقت لأجلها الدموع على المحاجر! وكم تلجلجت طلبا لها الدعوات في الحناجر!

يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجده، وقد أسدل الليل سدوله، فيرى عبدالله بن مسعود واقفا يناجي ربه، فإذا هو يسمع من دعائه: "اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفذ، ومرافقة محمد في أعلى الخلد".
يا طلاب الجنة: الجنة منازل ودرجات، بحسب أعمال أهلها وسعيهم؛ كما قال سبحانه: {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام: 132]، وفي الحديث عند أحمد: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام".
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنانها، في جنة الفردوس تحت عرش الرحمن، فمن رافقه نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإنما هو يتنعم مع نعيم مرافقيه بنعيم جنة الفردوس، والتي منها تفجر أنهار الجنة الأربعة.
يا أحباب محمد - صلى الله عليه وسلم -: من منا لا يتمنى مرافقته؟ من منا لا يتمنى أن يكحل عينيه برؤية خير البشر، في جنات ونهر، لكن الأماني وحدها بلا عمل إفلاس، وما نيل المطالب بالتمني.

فيا من تاقت نفسه لمرافقة خير الورى، ويا من منى نفسه بالجلوس مع خير من وطئ الثرى، أبشر أخي، فالطريق سهل، والسبيل ميسور، فأعمال صالحات، وخصال وقربات يصل بها المرء إلى هذه المنزلة الغالية والمحلة العالية، فاستمسك بها، وداوم عليها، وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه.
من الأعمال الصالحات التي وعد أهلها بمرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة كثرة السجود لله رب العالمين.
الإكثار من السجود في صلاة النوافل، أو في سجود الشكر أو سجود التلاوة؛ "إنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة" (أخرجه مسلم).
يحدثنا ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - عن هذا الوعد الصادق، فيقول: كنت أبيت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل يا ربيعة"، فقلت:" أسألك مرافقتك في الجنة" فقال: "أو غير ذلك"؟ قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".

أيها المشتاق لمرافقة حبيبه - صلى الله عليه وسلم الزم كفالة الأيتام، امسح على رؤوسهم، كفكف دموعهم، تول كل شؤونهم وأمورهم، وانتظر وعد نبيك - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وضم بين أصابعه"(أخرجه البخاري).
وعند مسلم: "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة"، ومعنى: "له أو لغيره"، أي: سواء كان اليتيم قريبا منه؛ كالجد مثلا يكفل حفيده، أو الأخ يكفل أخاه، أو كان لا قرابة بينه وبين اليتيم، فإنه يحوز هذا الأجر العظيم.
مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة تزف إلى كل عامل جعل لسانه لهاجا بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم، قد ترطب لسانه بكثرة الصلاة عليه، روى الترمذي في سنته وصححه ابن حبان من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وزاد البيهقي في سننه: "فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني مجلسا"،( قال ابن حجر: سنده لا بأس به).

إخوة الإيمان: وأحق الناس بمرافقة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - هم أولئك الرجال الذين حسنت أخلاقهم، وطاب سلوكهم، فتبوأ من القلوب محلا، ومن الجنات نزلا.
يحدثنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الفضل فيقول: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
عباد الله: ومن أسباب مرافقة سيد ولد آدم في أعلى الجنان:رعاية البنات والأخوات،وتربيتهن،والإحسان إليهن، فديننا قد جعل للأنثى من الفضائل والأجر ما ليس للذكر وكلاهما هبة من الله.
وفي محكم التنزيل قدم سبحانه هبة الإناث؛ {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور}(الشورى: 49).
قال بعض السلف: "البنوة نعمة، والبنات حسنات، والله يحاسب على النعمة ويجازي على الحسنات".
فيا عائلا للبنات، أبشر بصحبة المصطفى المختار، واستبشر بالجنة دار الأبرار، وابتهج بحجاب من النار.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم بين أصابعه" رواه مسلم.
وعند أحمد وصححه ابن حبان: "من عال ابنتين أو ثلاث بنات أو أختين أو ثلاث أخوات حتى يمتن أو يموت عنهن، كنت أنا وهو كهاتين في الجنة"، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى.
والرعاية - عباد الله - أوسع من مجرد الإنفاق، الرعاية تربية وعناية، الرعاية تعني استصلاحها بالإيمان، وغرس التقوى في قلبها وتهذيبها على الأخلاق من الحياء والحشمة والستر.
الرعاية تعني مجافاة مسالك الانحراف عن البنت، وسد أبواب الشر عنها، وملء وقتها بالنافع المفيد.
الرعاية تعني حفظها وصيانتها حيية كريمة في بيت والدها أولا، ثم اختيار الزوج الصالح لها ثانيا، ذي الدين والأمانة والخلق؛ لتعيش معه بقية حياتها.
وفي محكم التنزيل أمرنا المولى سبحانه بالعمل على استخلاص الأولاد من نار تلظى فقال: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة} (التحريم: 6). قال علي بن أبي طالب: "علموهم وأدبوهم".

ومن الأعمال التي يدرك بها العبد مرافقة نبيه صلى الله عليه وسلم: محبته صلى الله عليه وسلم محبة صادقة من القلب.
ها هو رجل من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من السابقين الأولين، ولا من أهل المواقف المذكورة، ولا من أهل التحنث والعبادة، بل هو من عامة الناس، لكن له قلب يخفق بحب رسول الله، لقي هذا الرجل رسول الله عند سدة المسجد - أي: ظلال باب المسجد - فقال له: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما أعددت لها"؟، فكأن الرجل استكان، ثم قال يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "فأنت مع من أحببت".
وكانت هذه العبارة: "فأنت مع من أحببت" كالبشرى زفت للصحابة - رضي الله عنهم - حتى قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإنك مع من أحببت"!
ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاملة لمحبة ذاته، ومحبة شريعته وسنته وأمره، مع بغض كل شيء أبغضه، أو تبرأ منه.
فالمحبة ليست شعورا داخليا ميالا منفكا عن القول والعمل.
والله والله ما أحب رسول الله من ناكف شرعه، واستهزأ بدينه، واستخف بسنته.
ما صدق في حب رسول الله من كان باردا في شعوره، لا يغار على سنته حين تنتهك، ولا من هديه حين يسفه.
المحبة الصادقة لها علامات وبراهين تدل عليها، وعلامة محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتباعه وطاعته.
           لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
فيا كل محب لرسول الله، ويرجو مرافقته هناك، اعلم وفقك الله لكل خير: أن طاعة الرسول هي جامع الأعمال لإدراك هذا المنال.
يقول الله سبحانه واعدا ومؤكدا: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما} (النساء: 69- 70) قال ابن كثير: "أي يجعله مرافقا للأنبياء، ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون ثم الشهداء ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون".
وقال القرطبي: "أي هو معهم في دار واحدة ونعيم واحد، يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم".
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا سميع الدعاء، يا واسع العطاء، نسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفذ، وعملا صالحا لا يرد، ومرافقة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنة الخلد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملتقى الخطباء-بتصرف يسير جدا

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة