الإقناع وأثره في الإسلام

0 1212

الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، أحمده سبحانه وهو البر الرؤوف الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رغب في انتهاج سبيل الإقناع، ووضح طريقه بكتابه الكريم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، الداعي إلى الله بإذنه وصاحب الخلق العظيم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واذكروا وقوفكم بين يديه في يوم تشخص فيه الأبصار: {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء:88، 89).
أيها المسلمون: إن المسلم وهو يدرك أن الإكراه على الدين أمر نهى الله عنه وحذر منه في قوله -عز اسمه-: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256)، فإنه كما قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعرض بقلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا".
يثبت أيضا أن رسالة الإسلام العالمية تقتضي تبليغ دين الله إلى عموم الخلق، ودعوتهم إلى ما يحييهم وما تكون به سعادتهم في حياتهم الدنيا وفوزهم ونجاتهم في الدار الآخرة، فالسبيل إلى أداء هذه الرسالة والقيام بهذا الحق إذن هو سبيل إقناع بالحجة والبرهان والصدق وقوة الاستدلال وسلامة المقدمات المفضية إلى صحة النتائج؛ ذلك أن القبول الناشئ عن الاقتناع مباين كل المباينة للقبول الناشئ عن الإكراه؛ فإن الأثر النفسي والعقلي الناتج عن الاقتناع مختلف كل الاختلاف عن ذلك الأثر الناشئ عن الإكراه، فالأول يثمر كمال الرضا وتمام التسليم وغاية الإقبال على دين الله وعلى امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، بدافع ذاتي وميل قلبي وحب وطاعة.

أما الثاني -وهو الإكراه والإجبار- فيثمر قناعة ظاهرية لا تلامس القلب، فضلا عن أن تخالط بشاشته ؛ فلا عجب إذا أن يكون شأن صاحبها وديدنه طلب التخلص والحرص على التخبط والتفلت عند أول فرصة تسنح أو بادرة تبدر؛ ولذا كان انتهاج نهج الإقناع سبيل القضاء الحكيم إلى النفوس، وطريقه إلى العقول والقلوب، يأخذ بأزمتها بما يحدث فيها من آثار وما يغرسه فيها من غراس يزكو نباته فيثمر إيمانا ويقينا وتسليما.
ففي مجال تنزيهه سبحانه عن أن يكون معه شريك في الملك والتصرف والعبادة، بين تعالى أنه لو قدر تعدد الآلهة لكان من نتيجة هذا أن ينفرد كل إله بخلقه فلا ينتظم الوجود، بل يحدث الفساد والاضطراب؛ لأن كل إله يقصد إلى قهر الآخر وإلى مخالفته ومعارضته في تدبير وتصريف أمور خلقه، فيعلو بعض هذه الآلهة على بعض، وهذا ممتنع عقلا ومحال واقعا، يشهد بذلك انتظام الوجود واتساق الكون على صورة شاهدة بوحدة الخالق وتفرده بالملك والتصرف والتدبير والعبادة؛ فقال -عز من قائل-: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} (المؤمنون: 91)، وقال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} (الأنبياء: 22).
ولما زعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ما زعموه في إبراهيم فادعت كل طائفة منهم أنه كان على دينهم أنكر الله عليهم محاجتهم فيه وأبطل زعمهم؛ فبين أن الزمن الذي كان فيه إبراهيم -عليه السلام- كان متقدما على الزمن الذي أنزلت فيه التوراة والإنجيل، فكيف يصح أن ينسب إلى دين أو كتاب جاء بعد عصره ولم يدركه: {يا أهل الكتاب لم تحآجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون} (آل عمران: 65).

وحين أراد أهل الكتاب في عصر النبوة أن يجعلوا لأنفسهم منزلة تعلو على كافة الناس ويكون لهم بها شرف واختصاص وتفرد على غيرهم من عباد الله، فزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، رد الله عليهم هذه المقالة، وأبطل هذا الادعاء بأنهم لو كانوا كذلك لما كتب عليهم الاصطلاء بالعذاب في النار يوم القيامة؛ لكفرهم وتكذيبيهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبالكتاب الذي أنزل عليه وبسائر معاصيهم؛ فالمحب لا يعذب حبيبه؛ فقال سبحانه: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير } (المائدة: 18).

 إن الإقناع كما هو منهج قرآني حكيم فإنه كذلك هدي نبوي وطريق محمدي، تظاهرت عليه الأدلة من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحيحة الثابتة عنه، من ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما والإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: إن رجلا من أهل البادية أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من إبل؟!"، قال: نعم، قال: "فما ألوانها؟!"، قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟!"، وهو ما فيه سواد ليس بحالك، قال: نعم، قال: "فأنى ترى ذلك؟!"، قال الرجل: لعله نزعه عرق، أي لعل في أصوله ما هو بهذا اللون؛ فاجتذبه إليه فجاء على لونه على ما هو مقرر في علم الوراثة؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق".
وهذا إقناع بالغ الحكمة باستعمال القياس بضرب المثل، وتشبيه المعلوم بالمجهول، بقصد دحض الشك من قلب الرجل وإحلال اليقين محله، ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح: عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن فتى شابا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: ائذن لي في الزنا؛ فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادن"، فدنا منه قريبا، قال: "فاجلس". قال: "أتحبه لأمك؟!"، قال: لا والله جعلني الله فداك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟!"، قال: لا والله يا رسول الله -جعلني الله فداك- قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟!" قال: لا والله -جعلني الله فداك- قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك؟!"، قال: لا والله -جعلني الله فداك- قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟!"، قال: لا والله -جعلني الله فداك- قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه". قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء؛ أي مما كان يسعى إليه سابقا.

وهي طريقة نبوية في الإقناع أعقبت اقتناعا ورجوعا ذاتيا عن طريق الغواية، وهدي نبوي ما أحكمه وأعظمه، وما أجدر أن يأخذ به ويسير عليه دعاة الخير وحملة مشاعل الهداية للناس كافة! فالطريق أمامهم شديدة الوضوح بينة المعالم، وثمار انتهاج هذا النهج حلوة طيبة المذاق، والعاقبة فيه حسنة، والمآل رضوان الله بإخلاص العمل لله ومتابعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودفع عباد الله بحسن إرشادهم إلى ما يسعدهم في العاجلة، ويورثهم حسن العقبى في الآخرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل: 125).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
جاء رجل إلى بعض السلف فقال: إني مسرف على نفسي؛ فاعرض علي ما يكون زاجرا أو مستنقذا، فقال: إن قبلت مني خمس خصال لم تضرك معصية، قال الرجل: هاتها -رحمك الله-، قال: "أما الأولى: فإذا أردت أن تعصي الله -عز وجل- فلا تأكل رزقه، قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه؟! قال -رحمه الله-: أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟! قال: لا. فهات الثانية. قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده، قال: هذه أعظم من الأولى؛ فإذا كان المشرق والمغرب وما بينه له فأين أسكن؟! قال: يا هذا: أفيليق بك أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟! قال: لا، هات الثالثة. قال: إذا أردت أن تعصيه فانظر موضعا لا يراك فيه فاعصه فيه، قال: كيف هذا وهو يطلع على ما في السر؟! قال: يا هذا: أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويعلم ما تجاهر به؟! قال: لا، هات الرابعة. قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أنظرني حتى أتوب، قال: ما يفقه مني؟! قال: يا هذا: إذا كنت لا تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وأنت تعلم أنه إذا جاءك لم يكن له تأخير فكيف ترجو الخلاص؟! قال: هات الخامسة. قال: إذا جاءك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم، قال: إنهم لا يقبلون مني!! قال: فكيف ترجو النجاة إذن؟! قال: حسبي حسبي، أستغفر الله وأتوب إليه".
وإنه لمنهج في الإقناع ما أحكمه وما أعظمه!! درج عليه أولئك الأسلاف العظام؛ فما أحوج دعاة الإسلام في كل زمان أن يأخذوا به خدمة لدين الله، ونفعا لعباد الله، وارتضاء لرضوان الله.
نسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المنبر- بتصرف يسير

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة