الهاراكيري

0 1991


في حادثة غريبة، وتحديدا في بداية القرن الحالي، لا تزال تلك الذكرى الأليمة يتردد صداها في مدينة فوكوشيما اليابانية، أقدم مسؤول في السكك الحديدية على الانتحار على النمط الياباني التقليدي المسمى بــ"الهاراكيري"، وذلك بعدما تسبب سائق قطارات شاب في انقلاب القطار الذي كان يسوقه، والذي راح ضحيته عشرات الضحايا الأبرياء.

وبعد التحري والاستقصاء عن الأسباب الحقيقية التي دعت مسؤولا كبيرا يقدم على مثل هذا الأمر، تبين أن الباعث له على الانتحار هو الحزن على ما قام به السائق من جهة، وتضامنا مع أهالي الضحايا من جهة أخرى.

ولربما يدفع الفضول سؤالا إلى السطح، يتساءل عن مثل هذا المواقف ومبرراته، وهل هي في ميزان العقيدة مقبولة أم مردودة، مما يستدعي تناول هذه الحادثة التي قد تتكرر من زمن إلى آخر، من عدة زوايا، تجلي النظرة العقدية على الموقف بشكل واضح.

ما هو الهاراكيري

في عالم الناس يقدم الكثير على الانتحار بطرق مختلفة، ومنها طريقة يابانية تقليدية اخترعها الساموراي "الجنود القدامى" وتسمى بالهاراكيري، وخلاصتها أن يقوم المنتحر بقطع أحشائه بسيف صغير (خنجر) وذلك بشق بطنه بخط أفقي من الشمال إلى اليمين ثم يواصل الشق رأسيا إلى أسفل البطن، ليظل ينزف حتى الموت.

ولقد كانت مثل هذه الطريقة سائدة بشكل كبير في العصور الوسطى، ثم بدأت تضمحل هذه الظاهرة وتتقلص بشكل كبير، إلا أنها لم تختف تماما، فلا نزال نسمع بين الحين والآخر من اختار موته بهذه الطريقة البشعة.

نظرة الإسلام عن للانتحار

تكاد الأديان السماوية تتفق على تجريم الانتحار وتحريمه تحريما مطلقا، وذلك نابع بالأساس من إدراك حقيقة الإنسان وحدود ملكيته، فالكون كله ملك لله سبحانه وتعالى: {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله  } (المؤمنون: 88 – 89)، والإنسان إنما هو مستخلف في الأرض: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} (الأنعام: 165)، وأن هذا الاستخلاف ناتج عن قبول الإنسان لهذه الخلافة حتى يؤدي الدور الذي خلق لأجله: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب:72).

وإذا كان الأمر كذلك، فلا يحق لأي أحدا أن يتصرف في شيء من الكون إلا بإذن مالكه الحقيقي، ألا وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الإنسان يملك نفسه، وله حرية في التصرف، فإن حريته قاصرة، لا يجوز له أن يفعل فيها ما يشاء، ولكن يرجع إلى الشريعة التي وضعها الله له ليفهم الحدود والأطر الموضوعة له فيتصرف على أساسها.

وقد عبر الدكتور حسن علي الشاذلي في بحث له منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي: "صلة الإنسان بجسمه ليست صلة مالك يتصرف في ملكه كيفما يشاء وبما يشاء، ولا تسلط يخضع المسلط عليه لرغباته دون حساب ودون رقيب، ولكنها صلة كصلة المودع بالوديعة التي وضعت تحت يده، فهو أمين عليها، ومطالب بأن يحوطها بكل مقومات الحفظ والصيانة، وبكل ما يدرأ عنها الأضرار حتى ترد إلى صاحبها، وصلة كصلة المنتفع بما وهب له الانتفاع به، فيجب أن يباشر انتفاعه به على الوجه الذي رسمه له مالكه، وعلى المنهج الذي ارتضاه له، وفي الحدود التي ارتضاها وشرعها، فإذا جاوز الحد حق عليه الجزاء".

ومما يفهم من ذلك: أن المكلف وفق العقيدة الإسلامية، لا يحق له أن يتعمد إتلاف أي عضو من أعضائه اعتباطا ودون وجه حق، ومن باب أولى: لا يملك أن ينهي حياته ويقدم على الانتحار؛ لأن الله هو الذي وهبه هذه الروح لتحقيق غاية مقصودة: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون: 115).

حكم الانتحار

لا شك أن الانتحار من كبائر الذنوب ، وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المنتحر يعاقب بمثل ما قتل نفسه به، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) متفق عليه، والوجأ: ضرب البطن بآلة حادة كالسكين، وخير مثال لها: الهاراكيري الذي مر معنا.

وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ) متفق عليه .

وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات . قال الله تعالى : بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة ) متفق عليه

نظرة في المبررات

كما تقدم في بداية الموضوع، فإن المسؤول الياباني أقدم على الانتحار وكان دافعه في ذلك أمرين اثنين رأى أنهما يصلحان في تبرير فعلته، بينما هما لا يزنان عند الله شيئا ولا قيمة لهما عند أحكم الحاكمين، أما الأول: فالحزن على خطأ السائق، لا يمكن أن يكون مسوغا معقولا لأن ينهي الإنسان حياته؛ ذلك لأن الخطأ هو خطأ السائق، فكيف يقوم هذا المسؤول بتحمل أخطاء قام بها الآخرون؟ كيف والله يقول: {ألا تزر وازرة وزر أخرى* وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 38 – 39)، فلا يعاقب أحد بجرم غيره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، فكيف يعتقد هذا المسؤول أحقيته في تحمل أخطاء غيره، ولو تقبلنا ذلك، فكيف نتقبل أن يكون العقاب إزهاقه لروحه؟ أليس في ذلك ظلم لنفسه، ولأسرته؟ ما ذنبهم حين يحرمهم دفء الأسرة وحنان الأبوة لأمر لم يكن متسببا فيه لا شرعا ولا قانونا ولا حتى إنسانيا؟ بل كيف يحرم مجتمعه كله من طاقة بشرية كانت تمثل لبنة من لبناته حتى يجعلها طاقة مهدورة؟ ولماذا يعالج الخطأ بخطأ آخر؟

وأما دعوى التضامن مع أهالي الضحايا، فللتضامن عشرات الصور الممكنة والمقبولة وليس منها هذه الفعلة الشنعاء، ليس أقلها زيارة أهالي الضحايا ومواساتهم، ومدهم بيد العون والمساعدة، وتعويضهم قدر الإمكان ما أمكنه ذلك، وإقامة الصدقات الجارية -لو كان مسلما- والتي تدر عليهم بالأجور الجارية إلى يوم القيامة، ولو ذهبنا في هذا الأمر بعيدا، لقلنا: أن ينذر حياته كلها في دفع رواتبه وأجوره للضحايا طيلة الحياة، أليس ذلك أولى من أن ينهي حياته، ألم يتفق العقلاء على أن إيقاد شمعة خير من لعن الظلام؟ أليس فيما سبق تجسيد حقيقي لقول الله تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (المائدة: 32).

نحمد الله تعالى أن هدانا وأرشدنا، وجعل لنا نورا يضيء لنا دربنا، ويرشدنا إلى خير ما نقول، وخير من نعمل، ويرسم لنا منهاج الحياة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة