العفو النبوي مع أسْرى هوازن

0 952

في السنة الثامنة من الهجرة النبوية، وبعد أن انتصر المسلمون في غزوة حنين على هوازن ـ وهي إحدى القبائل الكبيرة المشهورة في الجزيرة العربية ـ انتصارا عظيما، وغنموا منهم مغانم عظيمة، قدم النبي صلى الله عليه وسلم الجعرانة (موضع بين الطائف ومكة)، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، وأخر قسم الغنائم رجاء أن تأتي هوازن مسلمة، فيرد إليهم ما أخذ منهم، ولما لم تقدم في هذه المدة أخذ صلى الله عليه وسلم في توزيع الغنائم على المسلمين، ثم جاء وفد من هوزان بعد ذلك فأعلنوا إسلامهم، وكان هذا الوفد مكونا من أربعة عشر نفرا، يمثلون بطون هوازن المختلفة باستثناء قبيلة ثقيف، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم (ما أخذ من النساء والذرية في غزوة حنين)، وقالوا: يا رسول الله! إنا أصل وعشيرة، فمن علينا، من الله عليك، فإنه قد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك، وقال زهير بن صرد أحد بني سعد بن بكر (قوم حليمة السعدية): يا رسول الله، إنما في الحظائر (الموضع الذي يحاط عليه، ويقصد الأسرى) عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ثم سألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم.

سارع النبي صلى الله عليه وسلم في تلبية طلب هوازن لما عرف عنه من رحمة وعفو وكرم، فعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوازن مسلمين، وسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين (إما المال وإما السبي)، وقد كنت استأنيت بهم (انتظرت), وكان النبي صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل (رجع) من الطائف، فلما تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: إنا نختار سبينا (أسرانا)، فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم جاؤونا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل (يرد أسراهم لهم برضا نفس)، ومن أحب أن يكون على حظه (نصيبه من السبي) حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل (ما يحصل عليه المسلمون من العدو بدون قتال)، فقال الناس: طيبنا ذلك. قال: إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم (الذين يعرفون أمر القوم وأحوالهم)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه: أنهم طيبوا وأذنوا. فهذا الذي بلغنا عن سبي هوازن) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى قالت هوازن: (قد خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل نختار نساءنا وأبناءنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستعين برسول الله على المؤمنين أو المسلمين في نسائنا وأبنائنا، فلما صلوا الظهر قاموا فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقامت بنو سليم فقالوا: كذبت، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: يا أيها الناس، ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن تمسك من هذا الفيء بشيء فله ست فرائض من أول شيء يفيئه الله عز وجل علينا..) رواه النسائي.

وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية (قبل إسلامه) أن أعتكف يوما في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فاعتكف يوما. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها). وفي رواية للبخاري: (وأصاب عمر جاريتين (نصيبه) من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين (أطلقهم دون مقابل)، فجعلوا يسعون (يمشون) في السكك (الطرق)، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا؟ فقال من رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي، قال: اذهب فأرسل الجاريتين). قال ابن حجر: "فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد، وعرف وجه دخول هذا الحديث في باب غزوة حنين.. ويجمع بين الروايات بأن عمر أعطى إحدى جاريتيه ابنه عبد الله بن عمر".

عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن حقه في السبي وحق بني عبد المطلب، وأراد أن يكون ذلك العفو عاما، ولذا قال لوفد هوازن: (ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستعين برسول الله على المؤمنين أو المسلمين في نسائنا وأبنائنا)، فرد المسلمون أسرى هوازن اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وتلبية لشفاعته، ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت إليه من السبى، ثم ردها من بعد.

لم يكن العفو النبوي خاصا بزعماء قريش وحدها في فتح مكة، وإنما تجاوزهم إلى كثير من القبائل المختلفة وزعمائها، فقد كان صلى الله عليه وسلم ينشد في ذروة انتصاره أن يدخل الناس في دين الله، لا أن يعاقبهم أو ينتقم منهم، وهذا ما فعله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين مع هوازن، ولذا قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وبعثته: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء:107)، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إنما أنا رحمة مهداة) رواه البخاري.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة