أحوال أهل مكة مع الإسراء والمعراج

0 1138

أسرى الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء في ليلة واحدة، وكان ذلك بالروح والجسد، وفي اليقظة لا في المنام، ثم عاد فأصبح في مكة المكرمة، ولم يكن من الممكن لأحد في ذلك الزمان قطع هذه المسافة من مكة إلى بيت المقدس إلا في نحو شهر من الزمان ذهابا، وشهر إيابا، وقد جاء حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء، وعن المعراج في سورة النجم، قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}(الإسراء:1)، وقال تعالى: {أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى}(النجم 18:12).
قال ابن كثير: "وقد عاين صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها أو بعضها غيره لأصبح مندهشا أو طائش العقل، ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح ساكنا، يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة".

علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسراء والمعراج وما شاهده من مشاهد وآيات فيهما لن تتقبله عقول أهل الكفر والعناد، فأصبح مهموما حزينا، ولما رآه أبو جهل على تلك الحال جاءه وسأله عن حاله، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم برحلته في تلك الليلة، فرأى أبو جهل في قصته فرصة للسخرية والاستهزاء، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي، فقعدت معتزلا حزينا، قال: فمر عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم، قال: ما هو؟ قال: إنه أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: نعم، قال : فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي، حتى قال: فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدث قومك بما حدثتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قلت: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: نعم، قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب ـ زعم ـ، قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟! ـ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت قال: فجئ بالمسجد وأنا أنظر حتى وضع دون دار عقال أو عقيل فنعته وأنا أنظر إليه، قال: وكان مع هذا نعت لم أحفظه، قال: فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب) رواه أحمد وصححه الألباني.

أهل مكة وانقسامهم مع الإسراء والمعراج :

انقسم أهل مكة مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإسراء والمعراج إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: فهو قسم كفار مكة الذين ازدادوا كفرا إلى كفرهم، بعد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث معه في الإسراء والمعراج، وكان على رأس هؤلاء أبو جهل، الذي لم يكتف بالتكذيب، إنما جمع الناس وأخذوا يسخروا من النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث: (فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب)، فازدادوا عنادا إلى عنادهم، وكفرا إلى كفرهم. قال ابن القيم: "فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه، أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له، وأذاهم وضرواتهم عليه".

القسم الثاني: مجموعة من المسلمين الذين لم يستوعبوا معجزة الإسراء والمعراج، فارتدوا بعد إيمانهم كفارا، وهؤلاء كانوا قلة حديثي عهد بالإسلام، ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، فلم يعلموا ويؤمنوا بقدرة الله تعالى وقوته، ولو قدروا لله حق قدره ما تركوا الإسلام قط، قال الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}(الزمر: 67). وهذه القلة التي ارتدت لا يعرف أسماء أحد منهم، ولو كانوا كثرة أو كانوا من الصحابة المعروفين، لأحدثوا هزة في مكة، وهذا لم يحدث، كما أن الكفار لم يذكروا أمرهم، ولم يعيروا المسلمين بهم.

القسم الثالث: فهو قسم المؤمنين الذين ازدادوا إيمانا على إيمانهم، ويقينا على يقينهم، وكان على رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بموقفه الشهير الذي عبر فيه عن حقيقة الأمر عند المؤمنين. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد إلاقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن آمن، وسعوا إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه! قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي الصديق) رواه الحاكم وصححه الألباني.
وهذا القسم الذي يمثل أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذروته، ازداد إيمانا وثباتا، وازداد حبا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف مكانته عند رب العالمين، كما ازداد إيمانا بالغيب بعد أن رآه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وكذلك ازداد خوفا من النار واشتياقا إلى الجنة، بعد أن حكى لهم النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أمرهما .
 وفي تصديق أبي بكر رضي الله عنه والصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إبراز لأهمية الإيمان بالغيب والتسليم له طالما صح فيه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يستوعبه العقل. ومن ثم فما يأتي به الحديث الصحيح بما لا سبيل للعقل أن يستوعبه لنقصه وعجزه، كأن يأتي ببعض الأخبار الغيبية، أو يأتي ببعض المعجزات النبوية ـ كالإسراء والمعراج ـ، فمثل هذا يسمى: "محارات العقول"، ولا يسمى: "محالات العقول"، فهو لا يخالف العقل ولكن يعجزه ويحيره، فإما أن يسلم العبد به ويقبله ـ وتلك حال المؤمن ـ، وإما أن يرفضه ويرده وتلك حال الجاهل المكذب .

لقد كانت رحلة ومعجزة الإسراء والمعراج آية من آيات الله العظيمة الدالة على عظم منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم عند الله عز وجل، كما أنها من الدلائل على قدرة الله الباهرة، وكانت كذلك فتنة واختبارا، فمن الناس من نجح وثبت، ومنهم من فشل وانتكس، والـموفق من وفقه الله، قال الله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}(الإسراء:60). قال الطبري في تفسيره: "اختلف أهل التأويل في ذلك.. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس ليلة أسري به، قال: وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عنى الله عز وجل بها، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس، إلا فتنة للناس يقول: إلا بلاء للناس الذين ارتدوا عن الإسلام، لما أخبروا بالرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام، وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم، وكفرا إلى كفرهم".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة