فلا تغرنكم الحياة الدنيا

0 1189

في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحذر العباد من زخرف الحياة الدنيا، وتحذرهم كذلك من الشيطان الذي يزين لهم هذه الحياة، ويصرفهم عما خلقوا حقيقة لأجله، يقول سبحانه في هذا الصدد: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (فاطر:5).

الخطاب في الآية للمشركين، أو لهم وللمؤمنين؛ لأن ما تلاه صالح لموعظة الفريقين، كل على حسب حاله. وتضمن هذا الخطاب إعذارا للناس وإنذارا لهم بتحقيق أن وعد الله الذي وعده من عقابه المكذبين يوم البعث هو وعد واقع لا يتخلف، وأن حسابهم وجزائهم على أعمالهم وعد حق لا يتخلف كذلك، فكل ذلك لا شك فيه، ولا مرية، ولا تردد، قد دلت عليه الأدلة السمعية والبراهين العقلية، فإذا كان وعد سبحانه حقا، فعلى الناس أن يتهيؤوا له، ويبادروا أوقاتهم بالأعمال الصالحة، من غير أن يقطعهم عن ذلك قاطع، أو يشغلهم عن ذلك شاغل.

و(الوعد) مصدر، وهو الإخبار عن فعل المخبر شيئا في المستقبل، والأكثر أن يكون فيما عدا الشر، ويخص (الشر) منه باسم الوعيد، يعمهما، وهو هنا مستعمل في القدر المشترك.

وإضافة (الوعد) إلى اسم الله الأعظم {وعد الله} توطئة لكونه حقا؛ لأن الله لا يأتي منه الباطل.

و(الحق) في الآية مقابل الكذب. والمعنى: أن وعد الله صادق. ووصفه بالمصدر مبالغة في حقيقته. والمراد به: الوعد بحلول يوم جزاء بعد انقضاء هذه الحياة، كما دل عليه تفريع {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} الآية.

والمراد بـ (الحياة) ما تشتمل عليه أحوال الحياة الدنيا من لهو وترف، وانتهائها بالموت والعدم؛ ما يسول للناس أن ليس بعد هذه الحياة الدنيا الحياة أخرى. وإسناد (التغرير) إلى (الحياة) ولو مع تقدير المضاف إسناد مجازي؛ لأن الغار للمرء هو نفسه المنخدعة بأحوال الحياة الدنيا، فهو من إسناد الفعل إلى سببه والباعث عليه.

و{الغرور} بفتح الغين: هو الشديد التغرير. والمراد به الشيطان، قال تعالى: {فدلاهما بغرور} (الأعراف: 22). وهو يغر الناس بتزيين القبائح لهم، تمويها بما يلوح عليها من محاسن، تلائم نفوس الناس.

وقد روي عن سعيد بن جبير قوله: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة. والمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن {الغرور} الشيطان. وقرئ بضم الغين، ويقال: التغرير، وهو: إيهام النفع والصلاح فيما هو ضر وفساد.

وقد تضمنت الآية غرورين: غرورا يغتره المرء من تلقاء نفسه، ويزين لنفسه من المظاهر الفاتنة، التي تلوح له في هذه الدنيا ما يتوهمه خيرا، ولا ينظر في عواقبه، بحيث تخفى مضاره في بادئ الرأي، ولا يظن أنه من الشيطان. وغرورا يتلقاه ممن يغره، وهو الشيطان، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه، وبعضه يتلقاه من شياطين الإنس والجن.

قال الرازي: "المكلف قد يكون ضعيف الذهن، قليل العقل، سخيف الرأي، فيغتر بأدنى شيء، وقد يكون فوق ذلك، فلا يغتر به، ولكن إذا جاءه غار، وزين له ذلك الشيء، وهون عليه مفاسده، وبين له منافعه، يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه، وقد يكون قوي الجأش، غزير العقل، فلا يغتر، ولا يغر، فقوله تعالى: {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} إشارة إلى الدرجة الأولى، وقوله سبحانه: {ولا يغرنكم بالله الغرور} إشارة إلى الثانية؛ ليكون واقعا في الدرجة الثالثة، وهي العليا، فلا يغر ولا يغتر".

فالمقصود من الآية الكريمة: تذكير الناس بيوم القيامة وما فيه من أهوال. وعدم الاغترار بملذات الدنيا، وشهواتها، ومطالبها، فتلهيهم عما خلقوا لأجله. وتحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان؛ فإنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، ويمني الناس الأماني الكاذبة، ويقول: إن الله غني عن عبادتكم، وعن تكذيبكم.

وحاصل معنى الآية: أن وعد الله عباده بالبعث بعد الموت وحسابهم وجزائهم على أعمالهم وعد حق لا يتخلف، فلا ينبغي أن ينخدعوا بالحياة الدنيا ويركنوا إلى زخرفها، ويعملوا لها، ويتركوا العمل للآخرة، فإن الدنيا إلى زوال وفناء، والناس تاركوها وراجعون إلى دار باقية، ولا يصح في ميزان الشرع أن تشغلهم هذه الحياة الدنيا عن أداء ما كلفهم سبحانه بأدائه من فرائض وتكاليف، ولا يصح وفق منطق العقل أن يخدعهم الشيطان الخداع الغشاش، فيقول لهم: تمتعوا بدنياكم من حلال ومن حرام، كما تحبون فإن الله غفور رحيم -لا يخدعهم بقوله هذا- فكما أن سبحانه غفور رحيم، فهو كذلك عزيز ذو انتقام، فكيف لا يغضب ممن غفل عن مرضاته، وأصر على عصيانه، وهو مغمور بنعمه، ويعلم أن بطشه شديد، فهل من العقل أن يتعاطى المرء السم القاتل، ويعتقد أنه لا يموت به!

وهذه الآية الكريمة كقوله سبحانه في آية أخر: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (لقمان:33). وكقول المؤمنين للمنافقين يوم القيامة حين يضرب {بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} (الحديد:13-14).

ونشير أخيرا إلى أن للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي كلام جيد حول هذه الآية، فلينظره من أحب في كتابه (المثنوي العربي النوري: 354-357).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة