كان خلقه القرآن

0 933

يأسرني دائما وصف عائشة لخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختصارها لسيرة هذا النبي الكريم في جملة واحدة، لا تتجاوز ثلاث كلمات، حين قالت: "كان خلقه القرآن".
وهذه الكلمة ضخمة، لدرجة أنه قد لا يقوى على وصف هذا الخلق أمة بأكملها، وهل انقضى وطر الأمة من القرآن منذ فجر النبوة إلى اليوم؟!

إن عائشة - رضي الله عنها - تصف لنا قدوة عملية، وتضع لها وصفا كاشفا يعرفه كل إنسان له أدنى علاقة بكتاب الله - تعالى - وكل من أراد أن يعرف تفاصيل خلق ذلك الرسول، فليقبل على كتاب الله - تعالى - فإنها الترجمة الفعلية لأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما يعيش معه، ويمشي بين يديه.

إن هذه الكلمة رسالة لكل إنسان يعيش هم الدعوة والإصلاح في مجتمعه، ويشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه أمته، وتدعوه هذه الرسالة أن يعرض سيرته أولا على كتاب الله -تعالى- ثم بعد ذلك يعظ الناس على قدر ما معه من تلك المثل والصفات من كتاب الله - تعالى -.

لقد قال لنا الله - تعالى - في كتابه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)[الأحزاب: 21].
ومقتضى هذه الأسوة أن نتتبع أثره ودقائق حياته، ونأتسي بأكبر قدر من هذه الأسوة، ولا أعلم إلى تاريخ هذه اللحظة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف آمرا بشيء، أو ناهيا عنه، وهو لم يمتثله.

لا أدري لماذا مع كل هذا يوجد مفهوم:
لو لم يعظ في الناس من هو مذنب .. .. فمن يعظ العاصين بعد محمد؟
لقد شاع بيننا للدرجة التي أصبح كأنه هو الحق، وما عداه عارض لا حظ له من النظر.

إننا نظل مشغوفين بالكلمة التي تخرج في شكل موعظة، إلى درجة أننا نحسب بها في قطار الدعاة، أو نخرج من القضية بالكلية حين تختفي هذه الموعظة من شخصياتنا، وننسى أن أعظم أساليب الدعوة أثرا في حياة الناس القدوة الحية، حتى لو كانت هذه القدوة صامتة لا تنطق بحرف!.

إن الحديث عن الأخلاق قد يأخذ حيزا من أوقاتنا، وقد يحتاج في إبلاغه للناس إلى جهود ضخمة، وقد تكون كل هذه المعاني والفضائل التي تحتف بالأخلاق تمثلها شخصية الداعية في ابتسامة رقيقة ينثرها إلى المحتاجين إليها حين يلقاهم في أي مكان، وهي لا تحتاج إلى وقت، أو مال، أو مكان معين، إنها رسالة تكتب في قلوب الناس هذا الدين بحروف من ذهب، وصاحبها لم يتكلم في الأخلاق بكلمة!.

ومثل ذلك الرفق والإحسان، والصفح والعفو، وهو خلق عملي قبل أن يكون كلمات نرغب الناس فيه، والكرم لا يحتاج منا إلا إلى تجربة عملية نكتبها رسالة، دون أن تحتاج منا إلى شرح وتفصيل وبيان لأهميتها في حياة الناس.

إن بإمكان الواحد منا أن يؤسس في الناس الزهد في الدنيا بطريقة عملية يسيرة، وذلك حين لا يماكس بائعا في متجره؛ عملا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى]، وليس هذا سذاجة كما يظنه العوام؛ وإنما هو خلق نبيل عظيم كبير، يصنع في الناس ما لا تصنعه مئات المواعظ.

إن هذه صورة عملية رائعة في إقناع الناس بأن الدنيا في يد الإنسان وليست في قلبه، ولو بقينا نخطب عشرات السنين لتحقيق هذا المعنى في نفوس الناس، قد لا نصل إلى كبير فائدة.

ويمكن للإنسان أن يكون داعية مؤثرا في أوساط الجاليات الذين لا يعرفون منا في غالب الأحيان إلا الزجر والتعنيف، ولو كنا ندرك مكامن التأثير في دعوتهم، لكان يكفي الواحد منا ترك ريال أو ريالين لكل عامل يعبئ سيارته بالبنزين - كمثال - أو يشتري منه بعض حاجته، وهي مع كونها دعوة واضحة ومؤثرة، هي كذلك تطبيق لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [يصبح على كل سلامى من الناس صدقة].

ويمكن أن نؤسس في الناس ثقافة الكفاءة التي يدعو إليها العمل، من خلال الجدية التي يتمثلها بين زملائه في رسالته، في حرصه على الدوام، وانضباطه في أداء واجباته، وتميزه في إثراء واقعه بكل مفيد، وهو بذلك يقدم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: [إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه] بطريقة عملية، تكفي عن صفحات من الكتب.

إن إقناع أهل بيتك بالدعوة لا يحتاج فصاحة لسان، أو قوة بيان، بقدر ما يحتاج إلى قدوة عملية تعرض في أرجاء البيت السيرة العملية المضيئة لآثار هذا الدين، وتكتب في فنائه الفسيح أروع آثار الحب.

إن الإسلام انتشر في الأرض في فترة من الزمان عن طريق الشخصية الإسلامية المتينة فعلا وقدوة وعملا، وقد صنعت هذه الشخصية بمجرد النظر إليها ضروبا من التأثير في حياة غير المسلمين تلك الفترة، واليوم مع كل ما تملك الأمة من تأثير لا تزال الدعوة محصورة في فئات الداعين لم تتجاوزهم إلى غيرهم؛ لأنهم لم يكونوا تلك الصورة التي تمثل الإسلام الذي نزل من السماء أول وهلة.

إنني أود أن أقول في الختام لكل من يقرأ رسالتي هذه اللحظة: إن الدين جاء ليكون واقعا على الأرض، حيا في نفوس الناس، ماثلا في حياتهم، ولم يرد الله - تعالى - له أن يكون معزولا في وجدان إنسان؛ لأنه بذلك ينعزل من حياة الناس كلهم، ولا يكون له كبير تأثير.

وإذا أردنا أن يكون الدين فاشيا في نفوس الناس، فليكن روحا تسري في قلوب أصحابه، ثم لينزل إلى الواقع يكتب نوره وضياءه على الأرض كلها لا يقف منها في زاوية، وحينئذ سيصافح قلوبهم مباشرة، ثم يعرج بها إلى السماء تشرب من المعين الصافي عن قرب

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة