معجزة تكثير الطعام في غزوة تبوك

0 606

في رجب من السنة التاسعة للهجرة النبوية، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاربة الروم في غزوة سميت بغزوة تبوك نسبة إلى عين ماء يقال لها تبوك، وللغزوة اسم آخر معروفة ومشهورة به وهو: غزوة العسرة، وذلك لصعوبة وشدة الظروف التي وقعت فيها أحداثها، من شدة الحر وقلة الماء، وبعد المكان وقلة المال والدواب، وقد ورد هذا الاسم ـ العسرة ـ في القرآن الكريم في الحديث عن هذه الغزوة في سورة التوبة، قال الله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة}(التوبة: 117)، وعنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة). ويصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظروف هذه الغزوة فيقول: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه".
واستغرقت غزوة تبوك خمسين يوما، وقد تحمل فيها الصحابة رضوان الله عليهم الكثير من المشقة والتعب، وبدأت المعاناة للمسلمين بسبب نقص الماء وشدة الحرارة وقلة الدواب التي يركبونها، حتى إن البعير الواحد كان يتناوب عليه الجماعة من الرجال، واضطر بعضهم إلى أكل أوراق الشجر ونحر الإبل ليشربوا ما في بطونها، وبعد أن بلغ بهم الجهد مبلغا عظيما شكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه أن ينحروا بعض إبلهم التي يسقون عليها ليأكلوا منها.. 

ويصف أبو هريرة رضي الله عنه ذلك الموقف من غزوة تبوك وما حدث فيه من دلائل النبوة فيقول: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأصاب الناس مجاعة وقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا (الإبل التي يستقى عليها) فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا، فجاء عمر وقال: يا رسول الله، إن فعلوا قل الظهر (الإبل التي يحمل عليها وتركب)، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم (طعامهم)، فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة، قال: نعم، ثم دعا بنطع (بساط من جلد) فبسط، ثم دعا بفضل الأزواد، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال أبو هريرة: فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز (كقدرها وهي جالسة)، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم حتى والذي لا إله إلا هو ما بقي في العسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكل القوم حتى شبعوا، وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة) رواه مسلم.

وفي رواية للبخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (خفت أزواد (قل طعام) الناس وأملقوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟! فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم. فدعا وبرك عليه (دعا بالبركة عليه)، ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى الناس حتي فرغوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله).
قال ابن حجر في فتح الباري: "وقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد إلى آخر الشهادتين (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) أشار إلى أن ظهور المعجزة مما يؤيد الرسالة، وفي الحديث: حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه..ومنقبة ظاهرة لعمر دالة على قوة يقينه بإجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى حسن نظره للمسلمين على أنه ليس في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لهم على نحر إبلهم ما يتحتم أنهم يبقون بلا ظهر لاحتمال أن يبعث الله لهم ما يحملهم من غنيمة ونحوها، لكن أجاب عمر إلى ما أشار به لتعجيل المعجزة بالبركة التي حصلت في الطعام .. وفي حديث سلمة جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم يتقدم منه الاستشارة".

وذكر ابن هبيرة في كتابه "الإفصاح عن معاني الصحاح" بعض فوائد وفقه هذا الموقف من غزوة تبوك فقال: "في هذا الحديث من الفقه: أن نحر الظهر (ذبح الإبل التي يحمل عليها وتركب) عند اشتداد الضرورة جائز، لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. وفيه أيضا: أن العدول عن ذلك لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع الأزواد والدعاء عليها أفضل. وفيه: جواز أن يشير على الإمام ذو الرأي والكلمة المسموعة من أصحابه كإشارة عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا: دليل على جواز الرجوع إلى قول الصاحب عن معاينة الأولى والأجدر، وترك العزم الأول. وفيه أيضا: من الفقه جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية أزواد القوم ليدعوا فيها بالبركة التي لا تخفى منها مكانها ولم ينكر لهم سؤال أطعمه. وفيه أيضا: دليل واضح على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، فإنه قد دل هذا الحديث على أنه ملئ من ذلك القدر الطفيف كل مزادة في العسكر، وفضلت فضله حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله. وفيه أيضا: دليل على أنه يستحب تجديد الشهادة عند تجديد كل نعمة أو ظهور آية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شك من أنه لا إله إلا الله وأنه رسول الله، لأنه شهد بالوحدانية ولنفسه بالرسالة عند تجدد هذه النعمة. وفيه أيضا أن كل من لقي الله غير شاك في الكلمة لم يحجب عن الجنة".
وقال القاضي عياض: "وقد جمعنا مشهور أحاديث هذا الباب ومن رواه من الصحابة وحمله عنهم من التابعين فى باب معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم".

لقد شهدت غزوة تبوك العديد من المعجزات والدلائل النبوية التي أجراها الله عز وجل على يد نبيه صلى الله عليه وسلم تأييدا له، وإظهارا لصدقه وبركته، وسرعة استجابة الله عز وجل لدعائه إذا دعاه في عظيم المطالب ومادونها، ومن ذلك تكثير الطعام القليل حتى كفى الآلاف من المسلمين، ومن ثم قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة