الاعتداء على الميراث

0 1903
  • اسم الكاتب:الشيخ / صلاح بن محمد البدير (بتصرف يسير)

  • التصنيف:مساوئ الأخلاق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهداه، وبعد:
إن الدنيا متاع، من اشتد عليها حرصه أوشك فيها نقصه، ومن مد عينيه إلى ما ليس في يديه؛ أسرعت الخيبة إليه، وعكفت الحزونة عليه. والآخرة عند أهل الإيمان خير من كل نفيس، وأجل من كل مستعاض، وأعظم من كل مستطرف.

وقسمة التركات شريعة نازلة، وفريضة عادلة، ومن بطلت أمانته، وظهرت خيانته، وساءت دخلته، وبان خبثه، ولاح غدره ومكره؛ أساء القسمة، وخان الشريك وأكل سهمه، ولم يترك لشريكه قيد فتر، ولا قيس شبر، ولا عتبا ولا رتبا، ولا مقعدا ولا مصعدا، ولا مقيلا ولا سبيلا، ولا مجالا ولا مالا.

وشر الناس من إن نوقش حقد، وإن حوسب شرد، وإن طلب مرد، ولم يره أحد.
إضلال وإسلال (أي سرقة)، ومكر واحتيال، {وإن كثيرا من الخلطاء} (ص: 24) يعني: القرناء والأقرباء والشركاء {ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}.

وشر الناس من إذا طمع سرق، وإذا شبع فسق، وإذا احتاج نهش، وإذا استغنى فحش. ومن الغور في الجور أكل الميراث على الوراث، قال – جل في علاه -: {وتأكلون التراث أكلا لما} (الفجر: 19).
والتراث هو الميراث، واللم من لم الشيء إذا جمعه. فيعتدي في الميراث ويأكل ميراثه وميراث غيره.

ومن احتال على إسقاط الفرائض والمقادير، وتغيير الأنصباء والسهام، وأجحف في تقسيمه، وحاف في توزيعه، وقطع وارثا من ميراثه، وحبس مال التركة، أخفى أصولها وأعيانها، وغيب إثباتها وإسنادها، واستأثر بالتصرف فيها، وماطل في قسمتها، ورام استغلالها، وألجأ الوارث إلى التنازل عن سهمه، والرضا بجزء من قسمه؛ فقد تعدى حكم الله وفريضته وقسمته وحدوده.

قال – جل في علاه – في آخر آيات المواريث من سورة النساء: {تلك حدود الله} (النساء: 13) أي: هذه الفرائض والمقادير هي حدود الله، {ومن يطع الله ورسوله} أي: لم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضا بحيلة ووسيلة، وتركهم إلى حكم الله وفريضته وقسمته، {يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده} (النساء: 13، 14) أي: بمضادته في قسمته وفريضته في المواريث، {يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} (النساء: 14).

وفي العدل وصل ومودة واجتماع، وفي الظلم اختلاف وفراق ، وتباغض وتشاجر ونزاع على متاع قليل وأطماع.

والخؤون الظلوم يتحفز ويتوفز (أي يتهيأ ويتطلع) إلى حق المرأة واليتيم في الميراث، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة" (أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -).

ومعنى أحرج: أضيق على الناس في تضييع حقها، وأشدد في ذلك، وأحذر وألحق الحرج والإثم بمن أضاع حق اليتيم والمرأة.

فيا من وجد مال التركة سهلا! مهلا ..
يا من استولى على ميراث الإناث، وأغراه ضعفهن وسكوتهن وحياؤهن ..
يا من استولى على ميراث الأيامى واليتامى، وغره صغرهم وعجزهم وانقطاعهم .. تبت يداك، وخاب مسعاك، ودام شقاك.

كيف طابت نفسك أن تستولي على المال والبلاد والضياع، وتسند إخوتك وقرابتك إلى الفقر والعجز والضياع؟!

كيف طابت نفسك أن تحوز الريع والثمرة والأجرة والعقار، وتقابل إخوتك وقرابتك بالهجر والنكر والازدراء والاحتقار؟!

من الذي أباح لك الأمور عقدها ونقضها، وإبرامها وإصدارها؟! من الذي أباح لك أموال التركة إمساكها وإطلاقها، حظرها وإنفاقها؟! ويل لك وويل عليك، فما أنت إلا شريك من الشركاء، ووارث من الوراث، لك ما لهم، وعليك ما عليهم.

فاتق الله مولاك قبل أن يحل بك الخزي والهلاك، وخذ الأمر بزمامه وخطامه، ولزامه ونظامه، وأعط كل ذي حق حقه ومستحقه، ولا تدافع بالعدة وضرب الآجال، ولا تظلم بالتلكؤ والتسويف والمطال، واحذر الريث والإبطاء والإنظار والإمهال؛ فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت يأتي بغتة.

فعن ابن عباس – رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر".(أخرجه مسلم).

يا من احتكر الحبس والأوقاف والغلال .. يا من تولى قسمة الصدقات والزكوات والتركات والأموال .. يا من يمضي عليه الشهر والشهر والحقبة من الدهر والمال في حوزته وقبضته وذمته! لماذا تمسكه في يدك وتبقيه؟! فرقه اليوم على مستحقيه، إن كنت ممن يخشى الله ويتقيه؛ فإنك موقوف بين يديه وملاقيه.

فعن عقبة بن الحارث – رضي الله عنه -، قال: صليت وراء النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، فقال – صلى الله عليه وسلم -: "ذكرت شيئا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بتقسيمه" (أخرجه البخاري).

وفي رواية له: "وكنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة، فكرهت أن أبيته". والتبر: قطع ذهب أو فضة.

وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: اشتد وجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وعنده سبعة دنانير أو تسعة، فقال: "يا عائشة! ما فعلت تلك الذهب؟". فقلت: هي عندي، قال: "تصدقي بها". قالت: فشغلت به، ثم قال: "يا عائشة! ما فعلت تلك الذهب؟". فقلت: هي عندي، فقال: "ائتني بها". قالت: فجئته بها، فوضعها في كفه ثم قال: "ما ظن محمد بالله أن لو لقي الله وهذه عنده؟!" (أخرجه أحمد وابن حبان).

وعن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ساهم الوجه، فحسبت أن ذلك من وجع، فقلت: يا نبي الله! ما لك ساهم الوجه؟ فقال: "من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا بالأمس فلم نقسمها، أمسينا وهي في خصم الفراش" (أخرجه أحمد وابن حبان).سبعة دنانير يتغير وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه مضى عليها يوم ولم يقسمها.

فاتقوا الله – أيها المسلمون -، واعمدوا إلى ما هو أخلص للذمة، وأبعد عن المطل، وأرضى للرب، وأمحى للذنب، وذلك هو الفوز فيا فوز من بادر إلى الصواب، ويا فلاح من تاب، واستغفر وأناب، ومن تاب وأناب فإن الله هو الرحيم الغفور التواب.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة