احذروا .. (سوف) !!

0 2032

احذروا (سوف).. كانت هذه وصية رجل عاقل من رجالات عبد القيس عندما قالوا له أوصنا.. قال: احذروا سوف.
وهي نفس وصية ثمامة بن بجاد السلمي قومه، حين قال لهم: أي قوم، "أنذرتكم سوف"!! سوف أعمل، سوف أصلي، سوف أصوم.
وهي من أعظم الوصايا التي يوصى بها إنسان، ترك التسويف والمماطلة وتأجيل الأمور وتأخيرها عن وقتها..

ذلك أن التسويف من شر الأدواء التي تخالط القلب، وتخامر العقل، لأنه إيحاء مضل من إيحاءات الشيطان، وهو جند من جنود إبليس، يغر به الإنسان ويمنيه حتى يجنح به إلى الدعة والهوان، فهو ألد أعداء الزمن، هادم للعمر بلا فائدة، ومضيع للوقت بلا منفعة، ومفوت لمصالح الإنسان الدنيوية والأخروية، يصد عن جادة السبيل، ويحيل القوى والطاقات إلى وجهة الضياع والتعطيل، يهدم عمر الإنسان ويرديه، وعن كل إنجاز ورفعة يبعده ويعميه، ولكأس التعاسة والشقاوة يجرعه ويسقيه.
وهو المسئول عن الإخفاقات، والقصور عن المعالي والكمالات، من اتخذه طريقا عظمت تبعاته ودامت حسراته.. فمن زرع "سوف" لابد وأن يحصد يوما "ليت".
أيها السكران بالآمال قد حــان الرحيل
ومشيب الرأس والفودين للموت دلـيــل
فانـتبه من رقـدة الغفــلة فالعـمر قـلـيـل
واطرح (سوف وحتى) فهما داء وبيل

وقد عقد الخطيب البغدادي بابا في كتابه "اقتضاء العلم العمل: "باب ذم التسويف، وقد جاء فيه:
عن الحسن البصري رحمه الله: "إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن لك غد، فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم".

وعن قتادة بن أبي الجلد قال: قرأت في بعض الكتب: إن (سوف) جند من جند إبليس.

قال يوسف بن أسباط: كتب إلي محمد بن سمرة السائح بهذه الرسالة: "أي أخي، إياك وتأمير التسويف على نفسك، وتمكينه من قلبك؛ فإنه محل الكلال، وموئل التلف، وبه تقطع الآمال، وفيه تنقطع الآجال. وبادر يا أخي فإنك مبادر بك، وأسرع فإنك مسروع بك، وجد فإن الأمر جد، وتيقظ من رقدتك، وانتبه من غفلتك، وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت وعملت، فإنه مثبت محصى، فكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبطت بما قدمت، أو ندمت على ما فرطت.

وكان مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك، بادري قبل أن يأتيك الأمر، ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر. حتى كرر ذلك ستين مرة.
ولست بمدرك ما فات مني .. بـ "سوف" ولا بـ "ليت" ولا "لو اني"

ألا أيهـا المغتر بالـعمر، لا تقــل .. .. "غـدا"، فإنما الإنسان أنفـاس بائـد
 ففز بالمتاب الآن إن كنت عاقلا .. .. وإياك من (سوف)، وإياك من غد

 القرآن يحذر:
ولقد نعى القرآن الكريم أولئك الذين نسوا أنفسهم فاغتروا بالأماني ولم يقدموا لأنفسهم من صالح العمل ما ينفعهم في أخراهم حتى اغتالهم ريب المنون، فقال سبحانه حاكيا حالهم: (ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور).

وما زال القرآن والسنة يناديان على العباد بقطع حبل التسويف بسيف الإنجاز والمسارعة، والجد والمسابقة، يقول تبارك وتعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)[آل عمران: 133]. وقال: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله}[الحديد: 21].
ووصف خير عباده وأصفياءه من خلقه من الأنبياء والمرسلين بقوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا}، ووصف أهل خشيته من ورثة جنته فقال: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون .......... أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على اغتنام العمر والصحة والشباب والفراغ فيقول في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في "الزهد"، والحاكم والبيهقي وأبو نعيم: (اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك).

ويأمر بالمبادرة بالأعمال قبل تبدل وتغير الأحوال فيقول: "بادروا بالأعمال سبعا: هل تنظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر".(رواه الترمذي وقال حسن غريب).
قال السادة العلماء: خرج مخرج التوبيخ على تسويف العمل وعدم المسارعة إليه زمان الفراغ والقوة والشباب.
إلى كم تجعل التسويف دأبا .. .. أما يكفيك إنذار المشيب؟
أمــا يكفــيك أنك كل حـين .. .. تمر بقبر خل أو قريب؟
كأنك قــد لحقت بهـم قريبا .. .. ولا يغنيك إفراط النحيب

التسويف شر كله:
إن التسويف في كل أمر شين وسبة وسوء مغبة:
. كم من طالب سوف فرسب أو فاته التفوق والتقدم.
. كم من مدير سوف ففوت على شركته ربحا وفيرا أو تسبب في خسارة كبيرة.
. كم من عامل سوف فلم يقم بواجبه ففقد وظيفته وطرب منها بسبب الإهمال والتأخير.
. كم من متصدق سوف فصرفه الشيطان عن صدقته فأنساه إياها أو فتح له باب نفقة.
. كم طالب علم وافته فكرة فسوف في تقييدها فنسيها وراحت منه.
. كم من ظالم بدا له أن يرد المظالم، ولكنه سوف حتى أقعسه الشيطان حتى لقي الله ومظالمه على ظهره.

أشد التسويف ضررا:
غير أن أعظم ما يكون ضرر التسويف عندما يكون في فعل الصالحات، وعمل الخيرات، واكتساب المكرمات، فإنه يفوت الأجر، ويحرم كريم الذكر، خاصة عندما يكون التسويف في زمن الشباب. فإنه زمان العمل والاكتساب والاجتهاد؛ قالت حفصة بنت سيرين: "يا معشر الشباب!! اعملوا فإني وجدت العمل في الشباب".
وروى ابن أبي الدنيا عن عقبة بن أبي الصهباء قال: سمعت الحسن، يقول: "يا معشر الشباب، إياكم والتسويف.. سوف أفعل، سوف أفعل".
ولا ترج فعل الصالحات إلى غد .. .. لعل غذا يأتي وأنت فقيد

وأسوأ من ذلك عاقبة أن يكون التسويف والتأخير والتأجيل في التوبة، فإن شجرة المعاصي كلما تجذرت في النفس صعب اقتلاعها، وكلما زاد فعلها تمكنت من القلب جذورها، وصعب على النفس فراقها، ومن قال: أتوب إذا كبرت. قلنا وما يدريك أن تبقى إلى الكبر. فالعجب كل العجب ممن يسوف التوبة ويؤخرها، وهو لا يعلم متى ينزل به الموت.

خطران عظيمان
ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين: أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى تصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو، والثاني: أن يعاجله المرض أو الموت، فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو.
ســـبحان ربك ما أراك تتوب .. .. والرأس منك بشيبه مخضوب
سبحان ربك كيف يغلبك الهوى .. .. سبحانه إن الهــوى لغــلوب
سبحان ربك ما تزال وفيك عن .. .. إصلاح نفسك فترة ونكوب
سبحان ربك كـيف يلتــذ امــرؤ .. .. بالعيش وهو بنفسه مطلوب

كان عبد الله بن مسعود إذا قعد يقول: "إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، من زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع".

وأنشد محمود بن الحسن:
والمرء مرتهن بسوف وليتني .. .. وهلاكه في السوف والليت
من كــانت الأيـام ســائرة بـه .. .. فكــأنه قــد حـــل بالمــوت
للـه در فتــى تـدبــــر أمـــره .. .. فغـــدا وراح مبادر الفـوت

اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة