الوقار

0 1437

مما لا شك فيه أن النفوس تميل إلى من يتصف بمكارم الأخلاق وجميل الصفات، والتي منها بل من أهمها وأجملها الوقار الذي هو في حقيقته السكون والحلم والرزانة، قال تبارك وتعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63].
في هذه الآية الكريمة يصف الله عباده المكرمين، وأولياءه الصالحين، فكانت أول صفة امتدحهم بها الله تبارك وتعالى هي صفة الوقار، (والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع، لا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا) ( الكشاف للزمخشري).
قال ابن كثير في تفسيره : هذه صفات عباد الله المؤمنين {الذين يمشون على الأرض هونا }[الفرقان: 63] أي: بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار، كما قال: {ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} [الإسراء: 37] فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح، ولا أشر ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له.
وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا، فقال: ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين! فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة. وإنما المراد بالهون -هاهنا-: السكينة والوقار).

وقال الله تبارك وتعالى:{واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 19].
هذه إحدى وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه، وفيها أمر بالسكينة والوقار حال مشيه بين الناس، قال البغوي: (أي: ليكن مشيك قصدا لا تخيلا ولا إسراعا. وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله: {يمشون على الأرض هونا} [الفرقان: 63]).(تفسير البغوي).
وقال الخازن: (أي: ليكن في مشيتك قصد بين الإسراع والتأني، أما الإسراع فهو من الخيلاء، وأما التأني فهو أن يرى في نفسه الضعف تزهدا، وكلا الطرفين مذموم، بل ليكن مشيك بين السكينة والوقار).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتصف بالوقار، وكان نموذجا يقتدى به، ففي وصف أم معبد للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: (إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق، فصلا لا نزر ولا هذر- أي لا قليل ولا كثير-، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن...).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا، حتى ترى منه لهواته، وإنما كان يتبسم".(البخاري ومسلم).
هذا الحديث ذكره النووي تحت باب الوقار والسكينة في كتابه (رياض الصالحين)، وقد قال الشيخ ابن عثيمين معلقا: (يعني: ليس يضحك ضحكا فاحشا بقهقهة، يفتح فمه حتى تبدو لهاته ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يبتسم أو يضحك حتى تبدو نواجذه، أو تبدو أنيابه، وهذا من وقار النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجد الرجل كثير الكركرة -الذي إذا ضحك، قهقه وفتح فاه- يكون هينا عند الناس، وضيعا عندهم، ليس له وقار، وأما الذي يكثر التبسم في محله، فإنه محبوب، تنشرح برؤيته الصدور، وتطمئن به القلوب).(شرح رياض الصالحين4/92).
قال ابن حجر: (والذي يظهر من مجموع الأحاديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان - في معظم أحواله - لا يزيد على التبسم، وربـما زاد على ذلك، فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه أو الإفراط فيه؛ لأنه يذهب الوقار).
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".(البخاري ومسلم).
قال النووي: (الوقار في الهيئة وغض البصر، وخفض الصوت، والإقبال على طريقه بغير التفات ونحو ذلك، والله أعلم).

من الوسائل المعينة على التحلي بالوقار
- السكينة، فإنها تثمر الخشوع، وتجلب الطمأنينة، وتلبس صاحبها ثوب الوقار.
قال ابن القيم: (السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو والهجر وكل باطل).
- اتباع آثار الأنبياء والصالحين الذين تحلوا بالوقار. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة".
- طلب العلم، عن الحسن قال: (قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه، وبصره، وبره).
- البعد عن الغضب، والطيش والنزق؛ فإن ذلك ينافي الوقار والهيبة، قال طاهر بن الحسين يوصي ابنه عبد الله: (واملك نفسك عن الغضب وآثر الوقار والحلم. وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله).
- التزام الصمت وقلة الكلام، إلا فيما يعني، كل ذلك من سمات الوقار وعلاماته، لذا قالوا: (الصمت زين الحلم وعوذة العلم، يلزمك السلامة، ويصحبك الكرامة، ويكفيك مؤنة الاعتذار، ويلبسك ثوب الوقار).
- التزام الصدق، فإن (صدق اللهجة عنوان الوقار).

من أقوال السلف والعلماء في الوقار
عن عمران بن مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (تعلموا العلم، وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن يعلمكم عند العلم، وتواضعوا لمن تعلموه العلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم).
قال ابن مفلح: (وفي التفسير: {ولباس التقوى} [الأعراف: 26] قالوا: الحياء. وقالوا: الوقار من الله، فمن رزقه الله الوقار، فقد وسمه بسيما الخير. وقالوا: من تكلم بالحكمة لاحظته العيون بالوقار).
وقال الغزالي: (آداب العالم: الاحتمال، ولزوم الحلم، والجلوس بالهيبة على سمت الوقار مع إطراق الرأس، وترك التكبر على جميع العباد، إلا على الظلمة زجرا لهم عن الظلم، وإيثارا للتواضع في المحافل والمجالس، وترك الهزل والدعابة، والرفق بالمتعلم، والتأني بالمتعجرف، وإصلاح البليد بحسن الإرشاد...).
وقال: (الوقار وسط بين الكبر والتواضع).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التحلي بمكارم الأخلاق وأن يجنبنا سيئها ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستزادة انظر: موسوعة نضرة النعيم
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة