الجزع

0 1992

من في هذه الدنيا يخلو من الابتلاءات أيا كان نوعها؟ ومن في هذه الدنيا صفت له الحياة من كل جوانبها؟ حتى الأنبياء والمرسلون لم يسلموا من ابتلاءاتها ومنغصاتها؛ فليست الدار الدنيا دارا للراحة الكاملة أو السعادة الدائمة ما على هذا طبعت، قال الله تعالى:{لقد خلقنا الإنسان في كبد}(البلد:4).
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
دع الأيام تفعل ما تشاء          وطب نفسا بما حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي              فما لحوادث الدنيا بقاء
ورزقك ليس ينقصه التأني      وليس يزيد في الرزق العناء
ولا حزن يدوم ولا سرور        ولا بؤس عليك ولا رخاء

والناس في تعاملهم مع مصائب الدنيا وابتلاءاتها ومنغصاتها أنواع شتى، فمنهم من يصبر وإن كان غير راض، ومنهم من يصبر ويرضى، ومنهم من يجزع ويتكلم بالكلام السيء ويفعل عند وقوع ما يؤلمه الفعل القبيح، وهذا القول السيء والفعل القبيح هو الجزع المذموم، قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا (19)إذا مسه الشر جزوعا (20)}(المعارج).(فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له، من مال أو أهل أو ولد، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله)(من تفسير العلامة السعدي رحمه الله).
قال الجاحظ: (وهذا الخلق – أي الجزع - مركب من الخرق(أي الجهل والحمق) والجبن، وهو مستقبح إذا لم يكن مجديا ولا مفيدا).

أما الصالحون الذين عرفوا حقيقة الدنيا ورضوا وصبروا على الأقدار المؤلمة فلهم شأن آخر، انظر إلى نبي الله يعقوب عليه السلام حين ابتلي بفقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام لم يجزع ولم يتكلم إلا بالكلام الطيب فقال: { فصبر جميل}(يوسف:18). إنه صبر لا جزع فيه كما قال مجاهد رحمه الله تعالى.
وانظر إلى أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما حين بلغها ما يتكلم به بعض الناس – زورا وإفكا - في حقها قالت: والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف ، { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون }.
أتجزع مما أحدث الدهر للفتى        وأي كريم لم تصبه القوارع
أما أهل الجزع فإنهم على خطر عظيم وهذا مثال على ذلك، فعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا، فحز بها يده، فما رقأ (أي ما توقف)، الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه ( أي استعجل الموت)، حرمت عليه الجنة".(البخاري)
فانظر إلى جزعه حين لم يصبر على الألم قد ساقه إلى هذا الحرمان العظيم.
وعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله قوما ابتلاهم ( أي ليطهرهم من الذنوب)، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع".(رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني).

إن الجزع عند وقوع ما يؤلم العبد في نفسه أو في عزيز لديه أو في شيء من الدنيا خلق مذموم ينتج عن مرض القلب وتعلقه بالدنيا وضعف يقينه بالقدر ، وفرق عظيم بين هذا الداء وبين رقة القلب التي هي في الحقيقة رحمة حتى لو حملت صاحبها على البكاء أحيانا لكن صاحب القلب الرقيق المؤمن بقضاء الله وقدره لا يتكلم أو يفعل سيئا.

الفرق بين الجزع ورقة القلب:
لقد أوضح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الفرق بينهما وبينه بيانا شافيا حين قال:
(والفرق بين رقة القلب والجزع: أن الجزع ضعف في النفس، وخوف في القلب، يمده شدة الطمع والحرص، ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر... فمتى علم أن المقدر كائن- ولا بد- كان الجزع عناء محضا ومصيبة ثانية. أما رقة القلب فإنها من الرحمة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرق الناس قلبا، وأبعدهم من الجزع، فرقة القلب رأفة ورحمة، وجزعه مرض وضعف، فالجزع حال قلب مريض بالدنيا، قد غشيه دخان النفس الأمارة، فأخذ بأنفاسه، وضيق عليه مسالك الآخرة، وصار في سجن الهوى والنفس، وهو سجن ضيق الأرجاء، مظلم المسلك، فانحصار القلب وضيقه يجعله يجزع من أدنى ما يصيبه ولا يحتمله، فإذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله، رق وصارت فيه الرأفة والرحمة، فتراه رحيما رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، يرحم النملة في جحرها، والطير في وكره، فضلا عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله تعالى).(الروح لابن القيم).

وقال رحمه الله: (وإذا اطمأن ( أي العبد) إلى حكمه الكوني: علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه ما يشاء كان، وما لم يشأ لم يكن. فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف اليقين والإيمان. فإن المحذور والمخوف: إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه، وإن قدر فلا سبيل إلى صرفه بعد أن أبرم تقديره. فلا جزع حينئذ لا مما قدر ولا مما لم يقدر)(المدارج).
وقال ابن حزم رحمه الله: (إن إظهار الجزع عند حلول المصائب مذموم؛ لأنه عجز مظهره عن ملك نفسه، فأظهر أمرا لا فائدة فيه، بل هو مذموم في الشريعة، وقاطع عما يلزم من الأعمال وعن التأهب لما يتوقع حلوله مما لعله أشنع من الأمر الواقع الذي عنه حدث الجزع .. فلما كان إظهار الجزع مذموما، كان ضده محمودا، وهو إظهار الصبر...) أ.هـ.
ولا تجزع لريب الدهر واصبر     فإن الصبر في العقبى سليم
فما جــزع بـمغــن عنــتك شيئا     ولا ما فات ترجعه الهموم

وليعلم المؤمن أن صبره وعدم جزعه يترتب عليه كل خير في الدنيا والاخرة كما قال انبي صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له"(رواه مسلم).
وعن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع(أي: من شدة الألم والضجر الذي يصيب نفوسهم لو لم يعطوا من الغنيمة، فأعطيهم تأليفا لقلوبهم، وتطييبا لنفوسهم) ، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب". قال عمرو: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم.(رواه البخاري).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر والرضى وأن يجنبنا الجزع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة