إِنَّ بُيُوتنا عَوْرَة وما هِيَ بِعَوْرَة

0 622

من سنن الله تعالى في عباده أن يبتليهم بأنواع من البلاء حتى يتميز مؤمنهم من منافقهم، ويظهر صادقهم من كاذبهم، قال الله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت:2 ـ 3)، ومن حوادث السيرة النبوية التي تظهر ذلك: ما حدث في غزوة الأحزاب (الخندق). ففي السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وبتحريض من اليهود اتجهت جموع الشرك نحو المدينة المنورة بجيش كبير بلغ عدده عشرة آلاف مقاتل بقيادة أبي سفيان، والمسلمون حينئذ في ظروف صعبة، من جوع شديد وبرد قارص، وعدد قليل وأعداء كثر، وقد وصف الله تعالى هذا الموقف بقوله: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}(الأحزاب 11:10). قال ابن كثير: "وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح".

وفي هذه الغزوة المباركة الكثير من المواقف الجديرة بالوقوف معها للاستفادة من دروسها وعبرها، ومنها: موقف المنافقين حين تعللوا بعلل واهية ليتخلفوا عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: {إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}(الأحزاب:113)، وكذلك موقف حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتوغل في صفوف المشركين ومعرفة أخبارهم رغم الصعوبة الشديدة في ذلك.

إن بيوتنا عورة وما هي بعورة
:

غزوة الأحزاب (الخندق) وما فيها من أجواء وظرف في غاية الشدة والصعوبة، ميزت المؤمن عن المنافق، وأظهرت الصادق من الكاذب، فالمنافقون وضعفاء النفوس تزعزعت قلوبهم، وانخلعت صدورهم لرؤية جموع الشرك وكثرة عددهم وعدتهم، وارتابوا في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر، حتى قال بعضهم فيما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من فتوحات وخزائن كسرى وقيصر: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط"، وقد وصفهم الله عز وجل بقوله: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}(الأحزاب:13)، وقالوا تنصلا وهروبا من الجهاد والقتال: {إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}(الأحزاب: 13). قال ابن كثير: "يعني: اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة، أي: ليس دونها ما يحجبها عن العدو، فهم يخشون عليها منهم، قال الله تعالى: {وما هي بعورة} أي: ليست كما يزعمون، {إن يريدون إلا فرارا} أي: هربا من الزحف"، وقال السعدي: "أي: ما قصدهم {إلا فرارا}، ولكن جعلوا هذا الكلام وسيلة وعذرا لهم، فهؤلاء قل إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن".

وأما المؤمنون فقد صبروا أمام تكالب الأعداء عليهم، وثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فما انخذلوا ولا تراجعوا، وقد وصف الله تعالى موقفهم بقوله: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}(الأحزاب:22)، قال الشنقيطي: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين لما رأوا الأحزاب يعني جنود الكفار الذين جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، في غزوة الخندق، قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله". وقد قال الله تعالى عنهم أيضا: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(الأحزاب:23)، قال ابن كثير: "لما ذكر عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق و{صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه}، قال بعضهم: أجله"، وقال السعدي: "ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا الله لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله} أي: وفوا به، وأتموه وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبلوا أنفسهم في طاعته، {فمنهم من قضى نحبه} أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقتل في سبيل الله، أو مات مؤديا لحقه، لم ينقصه شيئا، {ومنهم من ينتظر} تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد، {وما بدلوا تبديلا} كما بدل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات، فقد قصرت عن صفات الرجال، {ليجزي الله الصادقين بصدقهم} أي: بسبب صدقهم في أقوالهم وأحوالهم ومعاملتهم مع الله، واستواء ظاهرهم وباطنهم".

حذيفة بن اليمان وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم :

روى البيهقي في دلائل النبوة، والشوكاني في فتح القدير، وابن إسحاق وابن كثير في السيرة النبوية، وغيرهم: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة، ما يرى أحد منا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: {إن بيوتنا عورة وما هي بعورة}(الأحزاب: 13)، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، فيأذن لهم، فيتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا (استعرضنا واحدا واحدا كأنه يتخير) حتى مر علي، وما علي جنة (سترة ووقاية) من العدو ولا من البرد، إلا مرط لامرأتي (كساء من الصوف) ما يجاوز ركبتي، قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، فقال: حذيقة! فتقاصرت للأرض، فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم، قال: قم، فقمت، فقال: إنه كائن في القوم خبر، فأتيني بخبر القوم، قال: وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا (بردا)، فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته، قال: فو الله ما خلق الله فزعا ولا قرا (بردا) في جوفي (قلبي) إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئا، قال: فلما وليت قال: يا حذيفة، لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فأضعه على كبد قوسي لأرميه في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فأمسكت ورددت سهمي في كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم، وفرستهم الريح تضربهم بها. ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصف بي الطريق، أو نحو ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين (يشير بذلك إلى الملائكة)، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر (البرد)، وجعلت أقرقف (أرتعد)، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر (نزل به أمر مهم) صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يترحلون، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا}(الأحزاب: 9)).

من الفوائد الهامة لموقف حذيفة رضي الله عنه مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالتوغل داخل المشركين لمعرفة أخبارهم: وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره، وأن هذه الطاعة تجلب لصاحبها البركة والهداية، قال النووي: "لم يجد (حذيفة) البرد الذي يجده الناس، ولا من تلك الريح الشديدة شيئا، بل عافاه الله منه ببركة إجابته للنبي صلى الله عليه وسلم وذهابه فيما وجهه له، ودعائه صلى الله عليه وسلم له، واستمر ذلك اللطف به ومعافاته من البرد حتى عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع ووصل عاد إليه البرد الذي يجده الناس، وهذه من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم".

السيرة النبوية بغزواتها وأحداثها ومواقفها تحمل بين ثناياها الكثير والكثير من الدروس والمعاني العظيمة، ومن هذه الدروس التي ظهرت في غزوة الأحزاب: بيان خطر المنافقين، وذلك لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون، ويعملون ويكيدون في الخفاء، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، وقد تهددت بهم الأمة الإسلامية كثيرا على مر العصور، ولهذا قال الله عز وجل عنهم: {هم العدو فاحذرهم}(المنافقون:4). ومن هذه الدروس الهامة أيضا: حرص الصحابة رضوان الله عليهم على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر ذلك في موقف حذيفة رضي الله عنه، والسيرة النبوية زاخرة بالكثير من المواقف والأمثلة الدالة على سرعة استجابة الصحابة لأمر لنبي صلى الله عليه وسلم، وإن خالف ذلك عقولهم وأهواءهم وعاداتهم، عملا بقول الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر:7)، قال ابن كثير: "أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة