القرآن وتثبيت الرعيل الأول

0 696

يقف الإنسان مشدوها عندما يستعرض ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم ورعيل المسلمين الأول من الابتلاء والتعذيب والتنكيل الذي يفوق الوصف والخيال، خصوصا ما كان في سنوات الدعوة الأولى وبعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهر بها في المشركين، وعندما رأى المشركون أنهم أمام دعوة كاملة ومنهج جديد، لا يقبل المنهج الجاهلي القديم، والحياة الشركية الأولى.. وعندما بان لهم أنه لا سبيل للالتقاء في منتصف الطريق والمهادنة والمداهنة والتنازل عن ثوابت الدين وأصول الدعوة، وزاد يقينهم بعدما باءت محاولاتهم بالفشل في إغراء النبي صلى الله عليه وسلم أو استمالته بأي وجه وطريق، وعلموا أنه لا سبيل أمامه إلا المضي في دعوته "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".. فعندئذ كشروا عن أنياب الغل وشمروا عن سواعد التنكيل والتعذيب والانتقام منه ومن كل من تبعوه على دعوته.

بيد أن هؤلاء المضطهدين أظهروا من مواقف الثبات والتمسك بالدين ما يقف معه الحليم حيرانا، ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم: ما هي الأسباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى، والحد المعجز من الثبات؟ كيف صبروا على هذه الاضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجف لها الأفئدة؟

نعم لقد اجتمعت عدة عوامل كان لها الأثر الأكبر في هذا الصبر المعجز والثبات المبهر، فكان من ذلك الإيمان بالله تعالى الذي ملأ القلوب، ووجود القيادة التي تهوى إليها الأفئدة وتتفانى في قبولها والدفاع عنها كل النفوس والقلوب، وكذلك الشعور بالمسؤولية الهائلة الملقاة على عواتقهم أمام أنفسهم والعالم أجمع، وأيضا الإيمان باليوم الآخر بما فيه من رجاء ثواب الصابرين والمؤمنين، وخوف عاقبة الارتداد والنكوص، مع الشوق إلى كل نعيم وعدهم به النبي الكريم، وزد على ذلك البشارات التي كان يسوقها إليهم القرآن الكريم والسنة المطهرة على لسان نبيهم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات.

القرآن الكريم:
وكان من أهم عوامل الصبر والثبات تنزل القرآن الكريم في هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة، فقد كانت السور والآيات تتنزل تباعا مع الأحداث مما أوحى إلى قلوب المؤمنين المستضعفين أن الله معهم، وأن عينه ترعاهم، وأنه مطلع على كل ما يجري لهم وما يلاقونه من أذى المشركين، فلا هو غافل عنهم ولا هم بمعزل عنه؛ فكان هذا هو أكبر مثبت لقلوبهم، وباعث للرضى في نفوسهم.

وكانت الآيات تتنزل كذلك لتقيم الحجج والبراهين على صدق مبادئ الإسلام ـ التي كانت الدعوة تدور حولها ـ بأساليب رائعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشرى في العالم ـ وهو المجتمع الإسلامي ـ وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}[البقرة: 214]، {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت:1ـ3].

كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردا مفحما، ولا تبقى لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وخيمة ـ إن أصروا على غيهم وعنادهم ـ في جلاء ووضوح، مستدلة بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدى حق التفهيم والإرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين.

وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنينا لا يقوم له أي عقبة.

البشارات بالنجاح
وكانت في طى هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}[التوبة:21] ، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين يحاكمون ويصادرون، ثم {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر}[القمر:48].

ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إن الدعوة الإسلامية تهدف ـ منذ أول يومها ـ إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على الأرض، والسيطرة على الموقف السياسي في العالم لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله، وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله.

وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم وتقضى على حياتهم كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماما أحوال مسلمي مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الصالحين الأرض والديار. فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية.

وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين}[الصافات:171 ]، وقال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}[القمر:45]، وقال: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب}[ص:11]. ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}[النحل:41].

وجاء المشركون فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فأنزل الله في طيها: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين}[يوسف:7]. أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوة يوسف من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}[إبراهيم:13ـ14].

وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان، وكان الكفار يحبون غلبة الفرس لكونهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبة الرومان لكونهم مؤمنين بالله والرسل والوحى والكتب واليوم الآخر، وكانت الفرس يغلبون ويتقدمون، أنزل الله بشارة بغلبة الروم في بضع سنين، ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة، بل صرح ببشارة أخرى، وهي نصر الله للمؤمنين حيث قال: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}[الروم:4، 5].

فكانت هذه البشارات مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقوم فيهم بمثله من أكبر عوامل صبرهم وثباته.

وما زال القرآن يتنزل على قلوب المؤمنين يشد أزرهم، ويربط على قلوبهم، ويملأها سكينة ورضا وتحملا لكل الأهوال فكان كالبلسم الشافي لكل ألم، والدواء الناجع لكل جرح، والماء البارد الذي ينزل على صحراء القلوب فينبت فيها من كل أنواع زهر الربيع، ثم تثمر كل أنواع الثمر الإيماني اليانع الزاهي الجميل، فيملأ حياتهم بكل معنى جميل، ويورثهم الصبر على ما يلاقون. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ۚ كذلك لنثبت به فؤادك ۖ ورتلناه ترتيلا}(الفرقان:33).

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة