أبو محذورة مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم

0 334

في شهر شوال من السنة الثامنة من الهجرة النبوية، وفي طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد غزوة حنين، لقيه أبو محذورة فأسلم وأصبح مؤذنا للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو ابن ست عشرة سنة, قال ابن عبد البر: "قال الزبير: كان أبو محذورة أحسن الناس أذانا، وأنداهم صوتا". وقال الذهبي: "أبو محذورة الجمحي، مؤذن المسجد الحرام، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم .. كان من أندى الناس صوتا وأطيبه". وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "كان له صلى الله عليه وسلم أربعة مؤذنين، اثنان في المدينة: بلال بن رباح، وهو أول من أذن له، وعمرو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى، وبقباء سعد القرظ مولى عمار بن ياسر، وبمكة أبو محذورة".
 
وقصة إسلام أبي محذورة رضي الله عنه فيها من العجب ما فيها، فقد بدأت باستهزائه بالأذان، ثم انتهت بإسلامه، بل وأصبح مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان عمره حينئذ ست عشرة سنة. فقد أخبر رضي الله عنه أنه لما سمع الأذان وهو مع بعض أصحابه خارج مكة أقبلوا يستهزؤون ويقلدون صوت المؤذن غيظا، وكان أبو محذورة من أعلاهم وأحسنهم صوتا، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر به فوقف بين يديه وهو يظن أنه سيعاقبه عقابا شديدا على استهزائه بالأذان ـ وهو شعيرة الإسلام ـ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، عامله برحمة ورفق، ومسح ناصيته وصدره بيده، فكان ذلك سببا في إسلامه، وامتلأ قلبه إيمانا ومحبة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: (فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم).

عن أبي محذورة رضي الله عنه قال: (خرجت في نفر، فكنا ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون، فصرخنا نحكيه (نقلده)، نهزأ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا قوما، فأقعدونا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار إلي القوم كلهم، وصدقوا، فأرسل كلهم وحبسني، وقال لي: قم فأذن، فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال لي: ارفع من صوتك، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك، وبارك عليك، فقلت: يا رسول الله أمرتني بالتأذين بمكة؟ قال: نعم، قد أمرتك، فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
أصبح أبو محذورة رضي الله عنه منذ ذلك اليوم مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، واشتهر عنه أنه لم يكن يحلق مقدمة رأسه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما علمه الأذان مسح على مقدمة رأسه، ففي مسند أحمد: ".. وكان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح عليها".

السيرة النبوية زاخرة بالأمثلة والمواقف الدالة على عفو النبي صلى الله عليه وسلم عمن آذاه، ورحمته حتى بمن أراد قتله من المشركين وحارب الإسلام وصد عنه, ومما يدعو إلى العجب أن من مطاعن وافتراءات أعداء الإسلام على نبينا صلى الله عليه وسلم اتهامه بالشدة والعنف، مع أن رحمته صلوات الله وسلامه عليه من أخص شمائله وأخلاقه، التي لم تفارقه في سائر أوقاته وأحواله، والتي شملت المؤمن والكافر، ومن آذاه ومن لم يؤذه، وقد قال الله تعالى عنه وعن رسالته: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء:107)، وعندما قيل له: ادع على المشركين، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم.

لقد كان لأسلوب الرحمة والعفو الذي اتصف به نبينا صلى الله عليه وسلم من الآثار الإيجابية التي تغير نفس من تعرض له بالإيذاء، وكان كافرا صادا عن سبيل الله، فمن المشركين من كان يأتي وفي نيته قتله صلى الله عليه وسلم، وليس على وجه الأرض من هو أبغض إليه منه، ويعود وقد آمن، وليس على وجه الأرض من هو أحب إليه منه صلوات الله وسلامه عليه، ومنهم من كان قبل إسلامه معاندا للإسلام مستهزئا به، فأصبح بعد إسلامه من كبار الصحابة الذين كان لهم الأثر الكبير في تاريخ الإسلام والمسلمين، وذلك لعفوه ورحمته وإحسانه وخلقه العظيم صلى الله عليه وسلم.. وأبو محذورة رضي الله عنه من هؤلاء الصحابة الكرام، فقد بدأت قصة إسلامه باستهزائه بالأذان وهو شعيرة الإسلام، ثم انتهت بإسلامه، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان، ومسح مقدمة رأسه، ودعا له بالبركة، فتحول بغضه للنبي صلى الله عليه وسلم إلى محبة شديدة، بل وأصبح مؤذنا للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة