كن نشيطا

0 1005

الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
اجهد ولا تكسل ولا تك غافلا   فندامة العقبى لمن يتكاسل
وقال آخر:
إذا هم هما لم ير الليل غمة    عليه ولم تصعب عليه المراكب

فالعبد الذي ينشط ويكون ذا همة تبلغه وترقيه يسعد وتسعد به أمته.
أقسام النشاط
ينقسم النشاط إلى قسمين:
القسم الأول: النشاط المحمود: وهو النشاط في الطاعات طلبا لمرضاة الله، والنشاط في الأمور النافعة كافة.
القسم الثاني: النشاط المذموم: وهو ما لا ينفع في الآخرة، أو كان على وجه الرياء، الذي هو الشرك الأصغر. ومن النشاط المذموم النشاط فيما يضر بالعبد في دينه أو دنياه.

ومما لا شك فيه أن النفس تتأثر بالصحبة والبيئة المحيطة فربما اندفع العبد للعمل بهمة ونشاط في وجود من يعينها ولا يكون الدافع لذلك هو الرياء، قال الغزالي رحمه الله:
(اعلم أن الرجل قد يبيت مع القوم في موضع، فيقومون للتهجد، أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه، وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة، حتى يزيد على ما كان يعتاده، أو يصلي، مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلا، وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع، فينبعث له نشاط في الصوم، ولولاهم لما انبعث هذا النشاط، فهذا ربما يظن أنه رياء، وأن الواجب ترك الموافقة، وليس كذلك على الإطلاق، بل له تفصيل؛ لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى، وفي قيام الليل وصيام النهار، ولكن قد تعوقه العوائق، ويمنعه الاشتغال، ويغلبه التمكن من الشهوات، أو تستهويه الغفلة، فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع، فينبعث له النشاط، فقد يكون الرجل في منزله، فتقطعه الأسباب عن التهجد، مثل تمكنه من النوم على فراش وثير، أو تمكنه من التمتع بزوجته، أو المحادثة مع أهله وأقاربه، أو الاشتغال بأولاده، أو مطالعة حساب له مع معامليه، فإذا وقع في منزل غريب، اندفعت عنه هذه الشواغل، التي تفتر رغبته عن الخير، وحصلت له أسباب باعثة على الخير، كمشاهدته إياهم، وقد أقبلوا على الله، وأعرضوا عن الدنيا، فإنه ينظر إليهم، فينافسهم، ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله، فتتحرك داعيته للدين، لا للرياء، أو ربما يفارقه النوم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر، فيغتنم زوال النوم، وفي منزله ربما يغلبه النوم، وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام، والنفس لا تسمح بالتهجد دائما، وتسمح بالتهجد وقتا قليلا، فيكون ذلك سبب هذا النشاط، مع اندفاع سائر العوائق... وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم، ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم، ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم، وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى، وقد يتحرك بذلك باعث الدين، ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد، فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين، فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد، بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية، ويشتغل بالعبادة).انتهى كلامه رحمه الله.

من فوائد النشاط
- أن النشاط خلق من أخلاق المؤمنين. عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: (إيانا تريد، يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا). قال ابن كثير: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييبا لقلوبهم؛ ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم).

- النشاط سبب صفاء الذهن، وصدق الحس، وكثرة الصواب.
قال ابن عبد ربه: (وبالنشاط يصفو الذهن، ويصدق الحس، ويكثر الصواب).

- به يذاد عن الأوطان، وتحمى الأعراض وتنشر الفضيلة، وتدحر الرذيلة.

- النشاط في عمل الخير يكسب المرء حب الله ورضا الناس، ويرفع ذكره في العالمين.

- كثرة تحصيل الثواب، والاجتهاد في الطاعات، وبلوغ أعلى المقامات.

- أن النشاط سبب الوصول إلى كل خير: من العز والغنى والرفعة والنباهة.

قال الراغب: (من تعطل وتبطل، انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى، وحق الإنسان أن يتأمل قوته، ويسعى بحسب ذلك إلى ما يفيده السعادة، ويتحقق أن اضطرابه -أي: نشاطه- سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة).

من أقوال الصالحين في الحث على النشاط:
قال علي رضي الله عنه: (أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل).
وقال ابن القيم: (الكسالى أكثر الناس هما وغما وحزنا، ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النشاط والجد في العمل).
وقال آخر: (اجعل الاجتهاد غنيمة صحتك، والعمل فرصة فراغك).
وقال آخر: (العمل ترس يقي سهام البلاء، والجد سيف يقطع أعناق الشقاء).

وقال لسان الدين الخطيب: (الكسل مزلقة الربح، ومسخرة الصبح، وآفة الصانع، وأرضة البضائع. إذا رقدت النفس في فراش الكسل، استغرقها نوم الغفلة عن صالح العمل. والفلاح إذا مل الحركة، عدم البركة. والعزم سوق، والتاجر الجسور مرزوق).

وقال حسين المهدي: (إن التنقل والمشي يعين على طلب الرزق، ويكسب الصحة، ويجدد للإنسان النشاط، ويغرس فيه الأمل، ويبعده عن الكسل، وأي قيمة لإنسان فارغ كسول في حياة مفعمة بالجد والعمل وحب الإنتاج، فمن رضي الخمول كان فارغا كسولا، تموت آماله وهو يرمقها بعين الندامة، لا غاية له يسعى إلى تحقيقها، ولا طريق واضحة يسير فيها، إن حياته كلها شقاء).

من الوسائل المعينة على النشاط
ذكر نعم الله:قال تعالى: {اذكروا نعمة الله عليكم} [المائدة: 20].
فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى، ومنشط على العبادة.

التذكير بآيات الله:
قال تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} [السجدة: 15].
قال السعدي: (يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانا سامعة، وقلوبا واعية، فيزداد بها إيمانهم، ويتم بها إيقانهم، وتحدث لهم نشاطا، ويفرحون بها سرورا واغتباطا).
وقال تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55].
(والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله... والنوع الثاني: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيذكرون بذلك، ويكرر عليهم؛ ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا، ويعملوا بما تذكروه من ذلك، وليحدث لهم نشاطا وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع).

التأمل في قصص السابقين:
قال تعالى: {وكـلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هـذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [هود: 120].
فؤادك (أي: قلبك؛ ليطمئن ويثبت، ويصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها، ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به).

الفأل الحسن:
فإن (فيه من المصلحة: النشاط والسرور، وتقوية النفوس على المطالب النافعة)
فـ(الإنسان إذا تفاءل، نشط واستبشر، وحصل له خير).

طلب نعيم الله ورجاء ما وعد به الصالحون:
يقول الغزالي: (فإن قلت: فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود؟ فاعلم أنه محمود في موضعين... الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال، ويقتصر على الفرائض، فيرجي نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين، حتى ينبعث من الرجاء، نشاط العبادة، فيقبل على الفضائل، ويتذكر قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1-2] إلى قوله: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 10-11]، فالرجاء الأول، يقمع القنوط المانع من التوبة، والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر).

الشعور بالمسؤولية، وعدم التهاون بما كلف به:
هذا الشعور يحمله دائما على القيام بما ينبغي مما يستدعي النشاط واليقظة وأما عينيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه".

المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200]، وقال سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].
واعلم أيها الحبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من العجز والكسل، وكان مما أوصى به: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها ".
وإن كان النشاط يتعب البدن فإن فيه صون النفس وعزتها ورقيها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأن يأخذ أحدكم أحبلة (مجموعة من الحبال) ثم يأتي الجبل ، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه".
نسأل الله التوفيق لكل خير، والحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة