بالعمل تنهض الأمم

0 1674

مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله ، لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"رواه الطبراني.

ففي هذه الجمل المختصرة والكلمات الموجزات لخص النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يقال عن قيمة العمل في مجلدات ومؤلفات.
ويرسي النبي صلى الله عليه وسلم هنا قواعد في غاية السمو؛ إذ كل عمل مهما كان حجمه إنما يكتسب قيمته من دوافعه وبواعثه وغاياته.
إن رسول الله الذي كان دأبه العبادة والتنسك والذي يحمل راية دين لا يعرف الدنيا إلا معبرا للآخرة يحفل بالعمل ويحتفي به حفاوة تجعله عبادة ونسكا وقربة في سبيل الله تعالى.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحب العمل ورغب أمته فيه، وكره البطالة والكسل وحذر أمته منه؛ فرغب بني أمته في الأكل من كسب اليد ، بل جعله خير ما يأكله العبد فيقول: "ما أكل أحد طعاما قط ، خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"رواه البخاري.
إنه نمط رفيع من أنماط الكرامة والشرف أن تأكل من عمل يدك.

ويؤكد صلى الله عليه هذا المعنى حين يقول:
"لأن يأخذ أحدكم أحبلا ، فيأخذ حزمة من حطب ، فيبيع ، فيكف الله به وجهه ، خير من أن يسأل الناس ، أعطي أم منع"رواه البخاري.
إنه عمل قد يبدو في أعين البعض حقيرا ولا يرضاه لنفسه ، لكنه في الميزان الصحيح عمل كبير في سبيل عفة النفس وحفظ ماء الوجه وصيانة النفس عن التعرض لذل السؤال.
وما خوطبت أمة بضرورة الاهتمام بالعمل قدر ما خوطبت أمة الإسلام، وقد ذلل الله تعالى الأرض لبني آدم ليستفيدوا من ثرواتها بالعمل والجد فقال تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } (الملك:15)، وذلل البحر إمدادا بالخيرات للطعمة والحلية وجريان السفائن موقرات مع بقية صور الانتفاع والعمل، فقال تعالى: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } (النحل:14])

وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتقى بالجهد العملي البشري إلى ما أكبر وأعظم من كل عطايا الدنيا وأجورها حين ربط هذا الجهد بالأجر الأخروي الذي يبقى ويدوم ولا يفنى: "من أمسى كالا من عمل يديه أمسى مغفورا له".(ضعفه الألباني).

إن العمل الحلال وإن كان شاقا إلا أنه في نظر الشرع أفضل من التعرض للناس بسؤالهم ، فقد أخبر صاحبه قبيصة رضي الله عنه عما دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها". ثم قال: "يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: قد أصابت فلانا الفاقة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك. وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا"رواه مسلم.

إن بعض الناس قد يستسهل السؤال ويعتبره أفضل من تحمل مشقة العمل، وقد يصيبهم نوع من الشره والرغبة في احتواش المزيد من أموال الناس ، وهنا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفر من مسألة الناس بغير وجه من الوجوه التي تجيز المسألة فيقول:
"من سأل الناس أموالهم تكثرا ، فإنما يسأل جمرا . فليستقل أو ليستكثر"رواه مسلم. ويجعل من العزة الاستغناء عن الناس فيقول مخبرا عن المؤمن: " وعزه استغناؤه عن الناس".

فالذي يؤثر الفراغ والبطالة والكسل لن يجد أمامه من سبيل في نهاية الأمر إلا أن يسأل الناس ، أما الذي يتخذ من الجد والاجتهاد شعارا فيعمل ويكدح فإنه سيجني ثمار عمله عفة وعزة وغناء مع ما يرجوه من أجر الله وثوابه حين تصلح نيته في هذا العمل ، و"اليد العليا خير من اليد السفلى" كما اخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي السائلة أو الآخذة.
وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يخبر أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: "أما في بيتك شيء؟". قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه الماء. قال: "ائتني بهما" فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: "من يشتري هذين؟" قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يزيد على درهم" - مرتين أو ثلاثا - قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: "اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فائتني به" فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال: "اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما". ففعل فجاءه وقد أصاب عشر دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة"رواه أبوداود.
ويخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم.."رواه البخاري.
إن العبد مطالب ببذل الجهد والله تبارك وتعالى بفضله وجوده يبارك في القليل فيكثر ويكفي ويفيض.

الرسول القدوة
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم القدوة في كل شيء ، وتتجلى عظمته في هذا الجانب حين نراه في بناء المسجد النبوي يقوم بالعمل في البناء وبذل الجهد بيده ولم يتخذ له حجابا ولا علية من دون البناة وحمال الحجارة بل كان يحمل معهم فلما رأى الأصحاب ما لا مثيل له في قيادات البشرية قالوا:

لئن قعدنا والنبي يعمل     لذاك منا العمل المضلل

وكذلك في غزوة الأحزاب كان يمسك المعول بيده الشريفة ويفتت به الحجارة الصماء في حفر الخندق، وكان الصحابة الكرام يرون الغبار على جلد بطنه الشريف صلى الله عليه وسلم.
ولقد قال لأصحابه يوما: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم". فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
الصحابة يهتمون بالعمل
من طالع سير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وجهادهم في سبيل الله تعالى قد يظن لكثرة جهادهم وفتوحاتهم أنهم كانوا متفرغين من الأعمال الأخرى ، والحق خلاف ذلك ، فقد كان أبو بكر وعثمان وغيرهما من التجار، وكان علي بن أبي طالب عاملا ، وهكذا كان أصحاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهم صنائع وحرف، وإليك هذا النموذج الذي يختصر لنا المسألة ، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال: بارك الله في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق فربح شيئا من أقط وشيئا من سمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال: "مهيم يا عبد الرحمن" فقال: تزوجت أنصارية، قال: "فما سقت إليها؟" ، قال وزن نواة من ذهب، قال: "أولم ولو بشاة "رواه البخاري.

إننا لسنا مطالبين فقط بالعمل ، بل بإتقان العمل، وما ارتقت الأمم التي سبقتنا في ميادين الدنيا إلا بالجد في العمل وإتقانه ، وإذا رجعنا إلى ديننا فسنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الإتقان فيقول: " إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"رواه الطبراني.
إن عدم إتقان العمل قد يؤدي إلى كوارث وضحايا وإهدار الجهد والمال ، وإن عدم إتقان العمل قد يكون نوعا من الغش المرفوض ، وفي الحديث: " من غش فليس مني"رواه مسلم.
إننا مطالبون بالعمل ومطالبون بالنية الصالحة في هذه الأعمال حتى ننال خير الدنيا والآخرة.
ونختم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"رواه أحمد.
والحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة